العدد 27

العدد 27

محتويات العدد 

■ الافتتاحيّة : الاستشراق والتطرّف 

حسن أحمد الهادي

■ تأثّر الآراء القرآنيّة لمحمّد شحرور بالمنهج التاريخي الاستشراقي ونقده

محمد حسن زماني ـ سلام ساجت

■ المرجعيّة القرآنيّة في سيرة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من منظور استشراقي

سليمة صالح لوكام

■ الاستشراق المضاد؛ نقد الغرب من داخل الغرب في فكر سيد حسين نصر

د. محمود حيدر

■ التعليم الكولونيالي الفرنسي بالمغرب؛ البنيات والتحوّلات

د. أنس الصنهاجي

■ الاستشراق معكوساً وتمثّل الآثار الأوروبيّة في أدب الرحلة التونسيّة

رحلة (لُبرْنس في باريس) لمحمّد المقداد الورتتاني أنموذجًا

خالد رمضاني

■ التأثّر والتأثير بين الثقافتين الإسلامية والمسيحيّة عند أسين بلاثيوس

د. إدريس الكنبوري

■ دوافع الاستشراق وأثرها في الفن الاستشراقي

د. ربيع أحمد سيد أحمد

■ تطويع الاستشراق بين إدوارد سعيد ومحمد عبد الواحد العسكري

عبد الكريم بولعيون

■ ترجمة ملخّصات المحتوى

 

افتتاحية العدد 

الاستشراق والتطرّف

لا نشكّ عندما نقلّب صفحات تاريخ الاستشراق والمستشرقين من القرن الثامن عشر وحتّى تاريخنا الحديث أنّ المشروع والخطاب الاستشراقي متلبّس بالعدائيّة والنظرة الدونيّة للشرق وللإسلام وللحضارة والشعوب، فلقد برز الخطاب العدائي الكنسي المتحامل ضدّ الإسلام ونبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مبكّرًا بشكل جليّ على الكثير من الصعد، إلى جانب خطاب مشوّه ومشبوه طاول الجانب الأكاديمي والأدبي والتاريخي والقيمي والفنّي، في فكر وحياة شعوب وبلدان الشرق.

وليس بعيدًا عن المنطق والصواب إن قلنا: إنّ هذا التاريخ المثقل بالشُبهات والإسقاطات غير البريئة على الشرق والإسلام والحضارة والتراث العربي، سيُنتج بشكل طبيعي ظاهرة التطرّف والعداء تجاه الآخر بكل بنيانه الفكري والديني والمعرفي والمادي...، وبالفعل هذا ما أتحفَنا به الاستشراق الجديد، والمستشرقون المتطرّفون بخطابهم الاستشراقي المعاصر الذي يجاهر بعداوته للإسلام مجاهرة صريحة لا لبس فيها ولا غموض. وأكثر ما يبرز هذا الخطاب من خلال اتّجاهين؛ الأول ديني، والثاني ثقافي عرقي، ومن الواضح أنّ الاتجاه الديني في الاستشراق المتطرّف يشكّل امتدادًا للتّوجه الثيولوجي نحو الإسلام، حيث يهتمّ علم الثيولوجيا أو اللاهوت بدراسة الدين، وفحص التجربة الإنسانيّة للإيمان، وكيفيّة تأثير الديانات المختلفة في العالم على المجتمع، وقد شاع استعمال مصطلح «الثيولوجيا» في مؤلّفات المعاصرين في وصف الحالة الإيمانيّة للإنسان المتديّن، ومع أن التوجّه الثيولوجي كان سائدًا في العصور الوسطى، كما أنّه يعدّ إحياء للاستشراق الديني في مدرسة الاستشراق القديم حتّى أوائل القرن العشرين. «حيث كان الخطاب الكنسي عن الإسلام هو الخطاب السائد وكان ينظر للإسلام باعتباره «مسيحيّة مشوّهة»، فعلى الصعيد الثيولوجي -أيّ اللاهوتي- كان خطاب الغرب المسيحي نحو الإسلام حتّى القرن التاسع عشر يدور حول اعتبار الإسلام «هرطقة مسيحيّة» بمعنى أنّ التّعاليم التي جاء بها الإسلام ما هي إلّا تحريف للمسيحيّة أريد له أن يتّخذ شكل دين جديد. وساد القول بأن محمّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم) قام بتوليف هذا الدين الجديد من التراث اليهودي-المسيحي معتمدًا على تعاليم العهد الجديد[1]»...

وأبرز ما اهتمّ به أصحاب هذا الاتجاه التشكيكي بمصدرية القرآن ومضامينه؛ والقول بأنّ المسلمين لم يفهموا النصّ القرآني لوجود فرق بين لغة القرآن العربيّة الأصيلة واللغات المحكيّة، أو لأنّ المسلمين لم يستخدموا المناهج العلميّة الحديثة في دراسة النصوص المقدّسة واكتفوا بالتفسيرات القديمة. وللأسف إنّ مثل هذا الخطاب الاستشراقي يلقى رواجًا واسعًا في الغرب، ويجد آذانًا صاغية عند الكثيرين منهم، بل يُساهم في تشكيل الرأي العام الغربي وحشده ضدّ الإسلام، ما ينعكس سلبًا على التوجّهات السياسيّة السلبيّة تجاه المسلمين عند الكثير من الغربيّين، وذلك على قاعدة تشكيل مخيّلة الغرب نحو المنطقة العربيّة، ووضع الخبرة الأكاديميّة في خدمة القرار السياسي الغربي.

وأمّا الاتجاه المتطرّف الثاني والمتمثّل بالبعد الثقافي العرقي، والذي يقوده بعض الأقليّات الدينيّة المتطرّفة في الغرب، بحيث يفرطون في تصوير خطورة الإسلام والمسلمين على المجتمع والحضارة الغربيّين، ويستثمرون كلّ فرصة للانقضاض على قيم الإسلام وتشريعاته وعقيدته، كونه -بنظرهم- مصدر الإرهاب والعنف في المجتمعات الغربيّة، مع تهمة إلقاء اللوم على المعتقدات الإسلاميّة كمصدر أوّل ووحيد للإرهاب المدني في أوروبا.

وبالعودة إلى الاستشراق الجديد والمتطرّف فهو على أحسن تصوير لا يعدو كونه نسخة محدّثة من الاستشراق القديم، لكن بمنظومة أهداف خبيثة، وخلفيّات فكريّة حاقدة، وفجاجة خطاب متعال ومتطرّف عمل على تقديم صورة نمطيّة للشرق لا تعكس سوى الجهل والهمجيّة وعبادة الشهوات. ولم يغب عنهم توصيف وعناوين أخرى مثل الهمجيّة والتوحّش والبداوة والجِمال والرّقّ... والهدف الاستراتيجي واضح وجليّ، وهو الاستحواذ على الشرق وثرواته وعدم تمكينه من أمره وقراراته، وإفراغه من القيم المعرفيّة والفكريّة الأصيلة التي دعا إليها الإسلام، وقامت عليها الحضارة الإسلاميّة والعربيّة.

ومع أنّنا هنا لسنا في موقع النقاش والنقد المستفيض مع أفكار هذا الاتجاه المتطرّف في نظرته إلى الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي، إلّا أنّه من الضروري أن نبيّن جانبًا من رؤيتنا لأدوار هذا الإنسان الفرديّة، ووظائفه الاجتماعيّة أينما عاش في هذا الكون، لنرفع جانبًا من إسقاطات وشبهات المستشرقين المتطرّفين التي ألبسوها للإنسان المسلم ولعقيدته ودينه وقيمه.

إنّ النظام الإسلامي يربّي الفرد المسلم على النظرة الدينيّة إلى الحياة والكون، وفي هذه النظرة الدينيّة يدرك الإنسان أنّه يسير على خطّ طويل لا يحدّده الموت، وأنّ الموت ليس إلّا انتقالًا من مرحلة معيّنة في هذا الخطّ إلى مرحلة أخرى أوسع أفقًا وأرحب مجالًا وأطول بقاءً. وحين يزرع التنظيم الاجتماعي البذور الأخلاقيّة في نفوس الأفراد ويجعل من القيم الخُلقيّة قوى فعّالة في سلوكهم وحياتهم، يحصل من ناحية على ضمانات ذاتيّة للتنفيذ والإجراء نابعة من شعور الفرد بالمسؤوليّة الأخلاقيّة، ويستطيع من ناحية أخرى أن يتسامى بالفرد تدريجيًّا ويفجّر كلّ طاقات الخير فيه، ولا يعود النظام مجرّد تحديد خارجي صارم لتصرّفات الأفراد، بل يصبح مجالًا يتسامى الأفراد ضمن إطاره وخلال تطبيقه روحيًّا، ويحقّقون المثل الصالح للإنسانيّة على الأرض[2].

وقد اعتبر الشهيد محمّد باقر الصدر(قدس سره) أنّ الدين هو صاحب الدور الأساسي في حلّ المشكلة الاجتماعيّة عن طريق تجنيد الدافع الذاتي لحساب المصلحة العامّة. فما دامت الفطرة هي أساس الدوافع الذاتيّة التي نبعت منها المشكلة، فلا بدّ أن تكون قد جُهّزت بإمكانات لحلّ المشكلة أيضًا؛ لئلّا يشذّ الإنسان عن سائر الكائنات التي زُوّدت فطرتها جميعًا بالإمكانات التي تسوق كلّ كائن إلى كماله الخاص. وليست تلك الإمكانات التي تملكها الفطرة الإنسانيّة لحلّ المشكلة إلّا غريزة التديّن والاستعداد الطبيعي لربط الحياة بالدين وصوغها في إطاره العام. ومن هنا كانت الفطرة تملي على الإنسان دوافعه‏ الذاتيّة التي تنبع منها المشكلة الاجتماعيّة الكبرى في حياة الإنسان (مشكلة التناقض بين تلك الدوافع والمصالح الحقيقيّة العامّة للمجتمع الإنساني)، ولكنّها في الوقت نفسه تُزوّده بإمكانيّة حلّ المشكلة عن طريق الميل الطبيعي إلى التديّن، وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الذي يوفّق بين المصالح العامّة والدوافع الذاتيّة، وهذا الدين الذي فُطرت الإنسانيّة عليه يتميّز بكونه دينًا قيّمًا على الحياة وقادرًا على التحكّم فيها وصياغتها في إطاره العام[3].

 تناولنا في هذا العدد مجموعة من البحوث التي تساهم في مناقشة وتوجيه ونقد الكثير من الأفكار التي طرحها المستشرقون على الإسلام والتراث، وحياة الشعوب. وذلك ابتداءً من تأثّر الآراء القرآنيّة لمحمّد شحرور بالمنهج التاريخي الاستشراقي ونقده، يليه المرجعيّة القرآنيّة في سيرة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من منظور استشراقي في القسم الأوّل من المجلّة الخاصّ بالبحوث القرآنيّة. وأمّا في القسم الثاني فالبداية مع الاستشراق المضادّ (نقد الغرب من داخل الغرب في فكر سيّد حسين نصر)، ثمّ الاستشراق معكوسًا وتمثّل الآثار الأوروبيّة في أدب الرحلة التونسيّة: رحلة «البُرْنس في باريس» لمحّمد المقداد الورتتاني أنموذجًا. ثمّ التعليم الكولونيالي الفرنسي بالمغرب: البنيات والتحولّات، يليه بحث حول التأثّر والتأثير بين الثقافتين الإسلاميّة والمسيحيّة عند المستعرب الإسباني أسين بلاثيوس، ثمّ دوافع الاستشراق وأثرها في الفنّ الاستشراقي. وقد خصّصنا ابتداءً من هذا العدد بابًا خاصّاً للقراءات العلميّة في الكتب والشخصيّات الاستشراقيّة ومناقشتها ونقدها فكان بحث تطويع الاستشراق بين إدوارد سعيد ومحمّد عبد الواحد العسري.

 

مدير التحرير

حسن أحمد الهادي

------------------------------

[1]- عكاشة، شريف، الاستشراق الجديد، أصوله ومدارسه وأهدافه، ص6.

[2]- محمّد باقر الصدر، ومضات: 110.

[3]- محمّد باقر الصدر، اقتصادنا: 357 ـ 360.