العدد 33

العدد 33

محتويات العدد

■ الاستشراق (Orientalism)؛ شكليّة المصطلح ودلالات الأيديولوجيا

حسن أحمد هادي

■ نقد مِنهجيَّة الدِّراسات القرآنيَّة عند المستشرقة أنجيليكا نويفرت

د. حمدان العكله

■ نقد ترجمة القرآن عند المستشرق جاك بيرك

د. فاطمة علي عبُّود

■ السيرة النبويّة في المصنّفات السريانيّة

أ.م.د. حيدر سالم محمد المالكي/م.د. دينا عبد السادة رسن المالكي

■ الدراسة الاستشراقيّة الفرنسيّة في المغرب من خلال "هنري دو كاستري"

اسليماني رضوان

■ صورة الآخر في الدراسات الاستشراقيّة وخطرها على العقيدة والفكر والتراث الإسلامي

أورنيلا سكر

■ المدن العربيّة في المتخيّل الجغرافي الأوروبي قديمًا (سبأ وملكتها أنموذجًا)

د. محمود أحمد هدية

■ البُنْيَة الصغرى للنصّ القرآني مدخلاً لتاريخ القرآن عند أنجليكا نويفرت

د. أحمد بوعود

■ ترجمة ملخصات المحتوى

 

افتتاحية العدد

الاستشراق (Orientalism)

شكليّة المصطلح ودلالات الأيديولوجيا

الاستشراق (Orientalism) مصطلح تعدّدت دلالاته ودوافعه الفكريّة والأيديولوجيّة عبر التاريخ والواقع المعاصرَيْن، فتراوحت دلالته بين دراسةٍ لحضارة الشرق وثقافته وعاداته وتقاليده وأعرافه وأنماط معيشته...، ودراسةٍ للدين والإسلام والقرآن والسنّة والتاريخ الإسلاميّ ورموز المسلمين...، وتجاذبت دوافعه بين دراسةٍ حرّضها التّنصير والتّبشير، ودراسةٍ ساقها الاستعمار الكولونياليّ لإخضاع البلاد والعباد، وأخرى حملها الخوف على الأنا (الغربيّة) مِن الاستلاب الحضاريّ والثقافيّ أمام انتشار تعاليم الإسلام، ورابعةٍ أخرى حفَّزها البحث عن الحقيقة وفهم الآخر الشرقيّ أو المسلم، وتحرّي هويّته مِن داخل بيئته الشرقيّة والإسلاميّة؛ تمهيدًا لمدّ جسور الحوار والتلاقي الحضاريّ بين الشرق والغرب، وبين أتباع الأديان، وقليل مَنْ هم كذلك.

وبسبب دوافع التنصير والاستعمار الغالبة على حركة الاستشراق في التاريخ المعاصر، فقد اكتسب هذا المصطلح حمولة سلبيّة أعاقت عمل المستشرقين المعاصرين في دراستهم للشرق والإسلام، على اختلاف دوافعهم في الدراسة؛ ما حدا بهم إلى إلغائه في مؤتمر دولي عقدته الجمعيّة الدوليّة للمستشرقين عام 1973م، والتي أصبحت تسمّى فيما بعد بـ«الجمعيّة الدوليّة للدراسات الإنسانيّة حول آسيا وأفريقيا»، ثمّ عدّلت التّسمية إلى «الجمعيّة الدوليّة للدراسات الآسيويّة والشمال-أفريقيّة»، كما ألغت الجامعات والمراكز البحثيّة الغربيّة اسم «الاستشراق» مِن أقسامها العلميّة والبحثيّة، وأطلقت عليها تسميات أخرى، مِن قبيل: «دراسات الشرق الأوسط»، و«دراسات الشرق الأدنى»، و«الدراسات الآسيويّة»، و«الدراسات الشمال-إفريقيّة»، و«معاهد دراسات الشرق الأوسط»،... ولكنّ ذلك لم يُفلِح في تغيير الصورة النمطيّة التي حفرها الغرب -بممارساته- في أذهان العرب والمسلمين، عن مساعيه ودوافعه السلبيّة الكامنة وراء بحثه عن الشرق والإسلام، على الرغم مِن تأكيدات بعض أبرز المستشرقين المعاصرين لهذا الإلغاء المصطلحيّ، ومنهم المستشرق البريطانيّ الأصل برنارد لويس (1916-2018) (Bernard Lewis)، بقوله في أحد تعليقاته على نتائج المؤتمر الدولي للمستشرقين الذي عُقِدَ في باريس عام 1973م: «لقد ألقينا مصطلح «الاستشراق» في مزابل التاريخ». ولكنْ سرعان ما عاد تداول هذا المصطلح بكثرة بين المفكّرين والباحثين بُعيد هذا الإلغاء الشكليّ له مِن قِبَل الغرب، ولاسيّما بعد أنْ أصدر المفكِّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد كتابه المشهور بعنوان «الاستشراق» عام 1976م، الذي تُرجِمَ إلى لغات أوروبيّة وشرقيّة عدّة، محدِّدًا فيه الاستشراق بأنّه مصطلح أكاديميّ صرف، وأنّ المستشرق هو كلّ مَنْ يدرس أو يكتب عن الشرق أو يبحث فيه، وكلّ ما يعمله هذا المستشرق يسمّى استشراقًا، وواصفًا إيّاه بأنّه تحيّز مستمرّ وماكر مِن دول مركز أوروبا تجاه الشعوب العربيّة الإسلاميّة، وبأنّه أسلوب غربيّ للهيمنة على الشرق وإعادة صياغته وتشكيله، وممارسة السلطة عليه؛ ما أحدث ضجّة إعلاميّة كبيرة بين المفكّرين والأكاديميّين الغربيّين والعرب، وردّات فعل سجاليّة بينه وبين أبرز المستشرقين الغربيّين آنذاك، وعلى رأسهم برنارد لويس.

ومع التسليم جدلًا بانتهاء الصلاحيّة الفكريّة والبحثيّة لمصطلح «الاستشراق» في الفكر الغربيّ، فهل انقطعت صلاته الدوافعيّة والمصدريّة بالاستشراق القديم؟ الواقع يؤكِّد العكس تمامًا؛ إذ إنَّنا نجد أنَّ معظم مقولات المستشرقين الجدد ليست إلَّا اجترارًا لمقولات المستشرقين السابقين، ولاسيّما أمثال سيلفستر دي ساسي (Silvester de Sacy) (ت 1838م)، أرنست رينان (Ernest Renan) (ت 1892م)، وإجنتس جولدتسيهر (Ignaz Goldziher) (ت 1921م)، وتيودور نولدكه (Theodor Noldke) (ت 1930م)، وكارل بروكلمان (Carl Brockelmann) (ت 1956م)، وآرثر جفري (Arthur Jeffery)  (ت 1959م)، ولويس ماسينيون (Louis Massingon) (ت 1962م)، وريجيس بلاشير (Regis Blachere) (ت 1973م) وغيرهم، وما زالت كُتُب أولئك المستشرقين إلى الآن تُعاد طباعتها، ويُبنى عليها البحث الغربيّ المعاصر والحديث عن الإسلام والعرب والمسلمين، بل أكثر مِن ذلك، فإنّنا نجد هذا المصطلح (الاستشراق) ما زال متداولًا بشكله المصطلحيّ -فضلًا عن حمولته الفكريّة والأيديولوجيّة- في أكثر الفعاليّات والمواقع العلميّة والبحثيّة والثقافيّة الغربيّة، حتّى بعد الإلغاء الشكليّ للمصطلح في مؤتمر الجمعيّة الدوليّة للمستشرقين المنعقد عام 1973م، وإلى يومنا هذا، ويكفي أنْ تضع كلمة (Orientalism) في محرّكات البحث المشهورة على الشبكة الإلكترونيّة، ليأخذك البحث إلى عشرات الآلاف مِن المواقع والمقالات والكتب والدراسات والفعّاليّات والأنشطة التي ورد في عنوانها مصطلح «الاستشراق»!. 

وعندما نتأمّل في صفحات الاستشراق المعاصر، تستوقفنا عشرات الإشكاليّات والتشكيكات والأسئلة التي أثارتها الفعّاليّات والأنشطة البحثيّة الغربيّة المعاصرة في الآونة الأخيرة، وتكرّرت مِن أكثر مِن جهة وشخصيّة استشراقيّة، بل ورُكّزت في الموسوعات والكتب المرجعيّة عن القرآن والإسلام، ومنها:

- هل استقى النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) رسالته من مصادر يهوديّة؟

- هل لدراسة المخطوطات القرآنيَّة، والمقارنة بين قراءات القرآن، والتعرُّف على الظروف التاريخيَّة والدينيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة في عصر نزول القرآن، وكذلك الدراسة التاريخيَّة والأدبيَّة للنصّ القرآنيّ؛ مدخليّة في معرفة تاريخ القرآن؟ وهل يمكن توثيق النصّ القرآنيّ مِن خلال مخطوطاته، ومِن خلال نقله مشافهة (القراءات)، وتقديم تفسير مستفيض يضع القرآن في سياقات ظهوره التاريخيّ؟

- مِن أين استقى المسلمون ممارساتهم الخاصَّة حول ترتيل القرآن وتلاوته في ظلّ تدوينها في القرنين الثاني والثالث الهجريين على أقرب تقدير؟

- هل للدراسات الإثنولوجيَّة ذات البعد الموسيقيّ (إثنوموسيقولوجيا) مدخليّة في فهم القرآن؟ وهل يمكن الاستفادة منها في استعراض المقاربة الفرديَّة والجماعيَّة للقرآن، وفهم التجربة الخاصَّة للمؤمن مع كلام الله؟

- هل للشكل الفيزيائيّ للقرآن مدخليّة في تكوين التجربة الدينيَّة عند المسلمين؟

- كيف يمكن للأفراد الذين لا يتحدَّثون العربيَّة الوصول إلى القرآن؟ وهل القرآن المترجم هو ذاته باللغة العربيَّة؟ وما السياسات التاريخيَّة والمعاصرة والتحدِّيات الكامنة في ترجمة القرآن؟ وهل سيتمُّ الحكم على القرآن على سندان التاريخ، حيث تتطفَّل الترجمة وتتكرَّر، أم يجب تأطير النصّ الذي تمَّ كشفه دائمًا من خلال مصفاة الأرثوذكسيَّة التي تمنح اللغة العربيَّة البكر الامتياز وتجنّبها إهانة اللغات الأخرى؟ وهل يوجد لدينا لغة عربيَّة مِن القرن السابع (زمن نزول القرآن) حتّى نتمكّن مِن فهم رسالة القرآن؟ وماذا عن كثير مِن المسلمين الذين يبلغ تعدادهم مليارًا ونصف نسمة؟ ذلك أنَّ غالبيَّتهم المطلقة مِن غير العرب وغير المطَّلعين على اللغة العربيَّة إلَّا مِن خلال القرآن؟ على المرء أنْ يسأل مرارًا وتكرارًا: مَنْ الذي يُهيمن، سندان التاريخ أم مصفاة الأرثوذكسيَّة؟ وهل يقدِّم القرآن نفسه مثل هذا الادِّعاء الشامل بفصله الشبيه بالحصن عن كلِّ اللغات الأخرى وفوقها؟ وهل تقتصر الرسالة القرآنيَّة على مَنْ يعترف بالأنبياء ويعرف اللغة العربيَّة فقط؟!

- هل يفتقد التاريخُ الدينيّ القرآنيّ المستندَ العلميّ، ولا سيّما مستندات علم الآثار والأركيولوجيا، في حين أنّ التاريخ الدينيّ في الكتاب المقدّس تدعمه هذه المستندات العلميّة؟

- هل توجد علاقة جدليَّة بين القرآن ومجتمعات تفسيره؟ وكيف تسيرُ هذه العلاقة بين المجتمع والكتاب المقدَّس؟ وهل يُمكن للفهم الأفضل لكيفيَّة التلقِّي وأصول التفسير (الهرمنيوطيقا) والافتراضات الثقافيَّة الخاصَّة بكلِّ مجتمع أنْ يؤدِّي إلى فهمٍ أفضل للقرآن في القرن الحادي والعشرين؟.

وهذا ما يؤكّد ضرورة ترصّد الواقع البحثيّ الاستشراقيّ المعاصر في مجال التراث الإسلامي بشكل عام، والدراسات القرآنيّة بشكل خاصّ، وتقديمه للباحثين مِن الحوزويِّين والجامعيِّين والمؤسَّسات البحثيَّة والعلميَّة؛ مِن التصدِّي والنقد ورفع الشبهات والمغالطات الكثيرة التي أُثيرت حول التراث الإسلامي، ولا سيّما القرآن الكريم والسنّة الشريفة، مِن قِبَل المستشرقين الغربيِّين ومَنْ سار على ركبهم مِن المستغربين.

وختامًا، نؤكِّد ترحيبنا واستعدادنا التامّ لتلقِّي البحوث والدراسات النقديّة التي ترتبط بالاستشراق والمستشرقين، ولا سيّما ما يتعلّق بالتراث الإسلامي بشكل خاصّ، والعربي بشكل عام، ولا بدَّ مِن التعاون في المجالات البحثيّة والعلميّة والفكريّة والثقافيّة في مواجهة سيل التحدّيات التي تتسلّل إلى بيئتنا بعناوين وصور مختلفة ومتنوّعة.

إذ ليس مِن عاقل يظن أنَّ الغرب بنزعته السلطويّة سوف يصل إلى يوم يتوقّف فيه عن زرع الشكوك وتفكيك الهويّات، فهذه وسيلته التي أدامت له، حتّى الآن، إمكانيّة الغلبة والهيمنة، فكيف إذا ما بدأ يستشعر بروز حركة نهضويّة تغييريّة في الفكر والخيارات في مجتمعاتنا. هو يظن أنّه الأقدر في هذا الميدان، ويبقى علينا أنْ نثبت العكس.

والحمد لله ربّ العالمين