العدد 24

العدد 24

محتويات العدد

■ الافتتاحية 

    المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية

■ الطباعة والنشر باللغة العربية في إنكلترا قبل سنة 1820م

    جيوفري روبير

■ دور الرحّالة الفرنسيين في تدعيم خلايا الاستعمار في الجزائر

   شمخاي موسى اسماعيل – معتوق جمال

■ الصوفي والسياسي صورة ماسينيون في الفكر العربي المعاصر

    أحمد عبد الحليم عطيّة

■ هل كان ابن مسرّة القرطبي فيلسوفاً؟

    بيلار غارّيدو كليمنتي

■ المعرفة الاستشراقيّة العصر الإمبريالي والسياسات العرقية في القارّة الإفريقيّة خلال القرن 19

    محمد البشير الرازقي

■ مقولات الترجمة والصورولوجيا في الكتابة المعاصرة نحو تأصيل لأطروحات الأدب المقارن في التراث

   مسالتي محمد عبد البشير

■ نظرة المستشرقين اليهود لقضيّة الجزية في مصر الإسلامية "جواتياين إنموذجاً".  

    محمود أحمد هديّة

■ المستشرقون الجُدد، كتاب إيان ألموند

    نقد ومناقشة: جهاد سعد

 

 

افتتاحية العدد

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد أكثر علماء الاجتماع وغيرهم من دراسة الظواهر الكثيرة في المجتمع الإنساني منذ القدم، وبالغالب يستند هؤلاء على دراسات تمزج بين قراءة الماضي، والتعمّق في فهم الحاضر، وقراءة المستقبل واستشراف ما يمكن أن يكون عليه الحال في القادم من السنين،   وهذا ما يعبّر عنه «وضع الظاهرة في سياقها الزمني للوقوف عند حقيقتها»، أي كيف كانت الظاهرة في الماضي، وكيف أصبحت في الحاضر، وكيف ستكون في المستقبل. فالظاهرة ليست سجينة ماضيها، وليست رهينة حاضرها فحسب، وإنما مستقبلها أيضاً؛  وذلك لأنّ الظاهرة تتميّز بالتغيّر الزماني والمكاني وما يحيط بها من تطوّر وتكنولوجيا وغيرها. ومن هنا تبرز أهمية الدراسات المستقبلية والاستشرافية بكل ما تحمله من عناصر بنيوية تنعكس آثارها على واقع المجتمع والإنسان في الآتي من الزمان، ويكون لها الدور الكبير في تطوّر المجتمعات ورقيّها وحضارتها. ورد عن الإمام جعفر الصادق «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس» ؛ أي لا تدخل عليه الشبه، والعلم بالزمان لا ينحصر بالزمن الحاضر بل يتعدّاه إلى المستقبل، إذ كيف يمكن معرفة الزمان بكل ما يحمل من قضايا شائكة ومعطيات متنوّعة بقراءة الحاضر فقط، وكيف يمكن دفع اللوابس والشبهات التي تغزو الفكر والعقيدة، وأسس بنيان المجتمع وقيمه وأعرافه، دون استشراف المستقبل وقراءة ما يحاك ويخطّط حوله وله. ولهذا لا يختلف إثنان في أنّ فهم الحاضر ودراسة المستقبل بالإستفادة من تجارب الماضين في التاريخ له الدور الحاسم في بناء المجتمع المتماسك والمتطوّر وتشييد عناصر قوّته واستمراره، ومحافظته على قيمه وأصوله العقدية والدينية، وإن دعوات القرآن الكريم في العديد من الآيات الكريمة إلى التأمّل في الأفاق والأنفاس والسماوت والأرض، وإعداد القوّة، وعمارة الأرض وغيرها، تأتي في سياق أهمية الدراسات المستقبلية والحث على دراسة الحاضر وفهم ما يجب أن يكون عليه المستقبل.
تأسيساً على ذلك، ولأنّ المستقبل يشكّل السياق الزمني الوحيد أمام الإرادة الإنسانية للتدخّل فيه مع الأخذ بعين الاعتبار كافة الاحتمالات بشأن الظاهرة محلّ الدراسة والتحليل من خلال توفير وتوظيف مناهج وأساليب وتقنيات الدراسات المستقبلية.  ومن أجل ترجمة تلك الأهمية إلى واقع ملموس، لا بدّ للمسلمين من المفكّرين والمؤسّسات التعليمية والبحثية المتخصّصة، من العمل التخصّصي الجاد في المواجهة الفكرية والمعرفية متنوّعة المجالات والتخصّصات من العمل وفق هذه القاعدة في مواجهة المد الفكري الغربي والاستشراقي، الذي أخذ من التراث والدين الإسلامي موضوعاً حيوياً لمشاريعه الموسوعية والبحثية منذ قرون من الزمن، وبخلفيّات لا تخلو من الفوقيّة والهيمنة، وتفريغ القرآن والمعارف الإسلامية من مضامينها القيميّة والإنسانية الرائعة، فضلاً عن المسّ بأصولها المتمثّلة بالوحي والنبوة والعقيدة...
خاصةً وأنّه لم تفلح كل المحاولات العربية والإسلامية من خلال التواصل والتعايش مع الغرب في تغيير تلك الصورة التي التصقت في وعي ولا وعي الغرب، وصارت مُسَلَّمة لا تُدحَض.  وقد أبت أفكارهم الآبائية إلا أن تطفو على كتبهم ودراساتهم التي كتبوها بأقلام أقل ما يُقال فيها أنّها تعاني من اللاموضوعية البحثية والمنهجية...، وتتحكّم بها تلك النزعة الفوقية الساعية إلى الهيمنة الفكرية والمعرفيّة، «فإن الأغلبية المطلقة من المستشرقين لم يتخلّصوا من المواقف المعادية للإسلام».
يتناول هذا العدد من مجلة دراسات استشراقية المتخصّصة باقةً من البحوث، التي تهدف إلى الدراسة المعرفية والنقدية وبروحية بحثية موضوعية ، للعديد من القضايا التي أصدر المستشرقون أحكامهم فيها في ضوء مناهجهم وقراءاتهم للتراث الإسلامي والعربي.
ابتداءً من موضوع الطباعة والنَّشر باللّغة العربية في إنكلترا قبل سنة 1820م، الذي تنشره المجلّة لتسلّط الضوء على ترجمةٍ لواحدةٍ من أبرز الأبحاث وأهمِّها التي كُتبت في النصف الثاني من القرن الماضي، التي تناولت واقع انتشار اللغة العربية في أوروبا، وبداية الاهتمام بها من حيث الدَّرس والتأليف، وهي ما يمكن أنْ نطلق عليه ببداية نشوء الاستشراق العلمي – الأكاديمي، في واحدةٍ من أكثر الدول أهميةً وأعرق المدارس الاستشراقية تأثيرًا ونتاجًا.
إلى دور الرحّالة الفرنسيين في تدعيم خلايا الاستعمار في الجزائر، وتسليط الضوء على الرحلات الفرنسيّة التاريخيّة إلى شمال إفريقيا والمغرب العربي والجزائر خصوصًا، ذات الطابعٍ الإيديولوجيٍّ الدينيٍّ في المقام الأوّل، والعرقيّ في المقام الثاني، فالمنطلق من أوروبا باتّجاه شمال إفريقيا له غاية وهدف ساميين، ظاهره التعرّف على الآخر المختلف عن طريق معاشرته ومخالطته، وباطنه تدوين مواطن قوّته وضعفه وتمريرها إلى القوّة السياسيّة المندرج تحت اسمها، وهذا العمل ما هو إلّا مقدّمة لاستيطان الأوطان، واستعباد شعوبها قهرًا وبالقوّة، وهو ما فعله الاستدمار الفرنسي بعدما استفاد من رحلات مستكشفيه ومدوّناتهم عن الأمّة الجزائريّة...
وليس بعيداً عن الإستشراق الفرنسي الحديث عن الصوفي والسياسي: صورة ماسينيون في الفكر العربي المعاصر
التي تتناول بالدراسة والتقويم مكانة المستشرق الفرنسي ماسينيون لدى الكتّاب والباحثين العرب. فهو بنظرهم  مستشرقٍ منصفٍ، وهو الصوفي الروحاني، والباحث المتوحّد بموضوعه، المخلص له. والموضوع الذي أخلص له هو الإسلام وتجلّياته المختلفة وصولاً إلى الواقع الإسلامي المعاش، فقد كان الدين الإسلامي الإبراهيمي هو الموضوع الذي عاش به ومن أجله دارسًا منقّبًا وباحثًا متحرّيًا، وهو يؤمن برسالة النبي محمد(ص) ، وقد قال ذلك وأثبته مرات متعدّدة فى كتبه، ويؤمن بالوحي والقرآن حتى أذاع عنه بعض عارفيه أنّه اعتنق الإسلام، ولكن الحقيقة أنّه لم يفعل ذلك جهارًا، ولكن أحاديثه تدلّ على كثرة اشتغاله بأدقّ مسائل الإسلام. 
لنصل بالدراسة والبحث إلى إبن مسرة القرطبي، وهل كان ابن مسرة القرطبي فيلسوفًا؟ من خلال التركيز على عمليّة «إعادة تركيب» الفكر المسرّي، من خلال شواهد  تكشف عن التصوّر الفكري لابن مسرة ولات سيما النصوص المحفوظة التي تم العثور عليها عام 1972م في مخطوط رقم 3168 في مكتبة تشستر بيتيبدبلن، فبعد ظهور مصنفيْ  الشيخ القرطبي صار من اللازم التفكير في ابن مسرة من جديد في ضوء هذين النصّين؛ لكن بهدف قراءتهما بعيدًا عن الأحكام المسبقة؛ إذ من المفيد جدًا في البداية تفكيك» البناء التركيبي» الذي أنجزه أسين بلاسيوس، عبر إعادة النظر في كلّ واحدة من كلّ الأفكار التي وصلتنا من المصادر. والإجابة على تساؤلات كثيرة أثيرت حوله؛ فهل كان ابن مسرة باطنيًا مجاوزًا للظاهر؟ هل كان معتزليًا؟ هل كان شيعيًا متخفيًا أو ربما اسماعيليًا؟ هل استوحى فكره من المسمى أنباذوقليس المنحول؟ هل كان عقلانيًا يضع العقل التأملي الحر في مرتبة النبوة أم يضعه فوقها؟ هل كان أفلوطينيًا فيضيًا؟ هل كان ثوريًا يؤطر أتباعه بنظريات اجتماعية وسياسية غريبة عبر تأويلات غامضة للقرآن؟
وأما الحديث عن المعرفة الاستشراقيّة، العصر الإمبريالي والسياسات العرقيّة في القارّة الإفريقيّة خلال القرن 19
فيهدف إلى الكشف عن أنّ الاستشراق كممارسةٍ مُنتجةٍ للقوّة والمعرفة ساهم في تأسيس العصر الإمبريالي الأوروبي في القارّة الإفريقيّة خلال القرن 19. وما أنتجه هذا العصر من صور نمطيّة وتصنيفاتٍ تحقيريّةً عديدةً، وقد كان العرق أهمّ العناصر التي شُرعن وبُرّر بها هذا المشروع، ثيمة العرق نفسها التي ساهمت إلى حدٍّ كبيرٍ في تركيز مؤسّسة الدولة القوميّة سواء خلال الفترة الاستعماريّة أو ما بعد الاستعمار. فكان العرق قاسمًا مشتركًا بين ثلاثة منظوماتٍ فكريّةٍ أثّرت مباشرة في سيرورة القرن 19، وهي ترسّخ الدولة السياديّة، الرأسماليّة، والعصر الإمبريالي، وقد وظّف الاستعمار السياسات العرقيّة كوسيلةٍ لشرعنة وجوده وطريقة ناجعة لتقسيم البشر وتصنيفهم وتحقيرهم. 
وعند البحث في مقولات الترجمة والصورولوجيا في الكتابة المعاصرة، نحو تأصيل لأطروحات الأدب المقارن في التّراث، نتناول بالبحث والنقد -بواسطة مقولات الدّرس المُقارن- استنطاقَ المقاربة الاستشراقيّة والمقاربة المقارنتيّة، التي تشكّلت حول نصوص الجاحظ، وتفجّرت حولها قراءاتٌ متباينةٌ وتفسيراتٌ متعارضةٌ لطبيعتها وقيمتها الجماليّة، بالتركيز على أنّ تجديد الآليات المعرفيّة والأدوات المنهجيّة في الفحص والقراءة يستتبع بالضرورة تجديدًا في الفهم، بل يستتبع كسرًا للفهومات المألوفة، وأنّ التّراث العربي -بكلّ أنماطه- غنيٌّ يحتاج إلى تحيين مفرداته بأدواتٍ علميّةٍ جديدةٍ حتى يتسنّى توظيفه في واقعنا الثّقافي المُعاصر بصورةٍ متجدّدةٍ. 
وفي سياق بحث ونقد نظرة المستشرقين اليَهُود لقضيّة الجزية في مصر الإسلاميّة ”جواتياين إنموذجًا“، كانت هذه الدراسة التي تهدف إلى إزاحة الستار عن محاولة تكريس مفهوم التأثير اليَهُودي والمسيحي من منطلقٍ عرقيٍّ في تاريخ المسلمين وثقافتهم مباشرة، والسعي لتكريس العواطف العدائيّة ضدّ المسلمين؛ فتتمحور المقالة حول مساهمة جواتياين في مجال الدّراسات الإسلاميّة المستخلصة من ثنايا الجنيزة، والتي ساهمت في إيضاح العديد من الجوانب الحضاريّة التي غفلت عنها المصادر العربيّة، والجنيزة تُعدّ أهمّ المصادر الخاصّة بتاريخ اليَهُود على الإطلاق في العصر الإسلامي، والتي تفصّل الكلام في الجزية  والمقدار المستحقّ على الْيَهُود باختلاف طبقاتهم وحالتهم المادّيّة والاجتماعيّة، وتسليط الضوء على الآثار السلبية الناتجة عن  أخذ الجزية على معيشة اليهود واستقرار حياتهم.
ختاماً يناقش هذا العدد كتاب «المستشرقون الجُدُد» لمؤلّفه إيان ألموند، الذي يتناول فيه عن فلاسفةٍ وأدباء غربيين وظّفوا الإسلام كما يفهمونه في مشاريعهم النّقديّة للحداثة؛ لتشكيل تيّارٍ ما بعد حداثيٍّ لا يخرج من حدود الفضاء الغربي إلّا ليخدم منظومة الهيمنة الغربيّة القائمة. ومن غير المفهوم لماذا يتعمّد الكاتب البريطانيٌّ  الذي ينتمي إلى جامعةٍ أميركيّةٍ في دولةٍ إسلاميّةٍ، بث أفكار وموضوعات، بل وحتى أسماء لأشخاص لا تشترك إلا في العداوة لقيم الإسلام وعقائده، وإن كانت خارجة موضوعياً عن منهجيّة الكتاب ومضمونه، كسلمان رشدي، والأديب التركي المُلحد أورهان باموك. 
وعندما نقلّب صفحات الكتاب مجدّداَ بالمقارنة مع هويّة الكاتب وخلفيّاته الفكرية، ندرك أنّه جزء من المنظومة الغربية الهادفة إلى هزّ أركان العقيدة الإسلامية، وتشويه صورته الاجتماعية والسياسة...، لكن هذه المرة في بيئة جامعية إسلامية ومن على منبر بلد إسلامي، هنا تكمن أهمّية الموضوع.
والحمد لله رب العالمين

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية