البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

قراءة في كتاب "ترجمة القرآن عند المستشرقين" (مقاربات نقدية) من سوء الفهم إلى التَّوظيف الإيديولوجيِّ والهيمنة الثَّقافيَّة

الباحث :  خضر أ. حيدر
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  36
السنة :  خريف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 31 / 2023
عدد زيارات البحث :  1744
تحميل  ( 583.990 KB )
أخذت الدِّراسات الاستشراقيَّة حيِّزًا مهمًّا في ترجمة القرآن الكريم إلى الُّلغات اللَّاتينيَّة المختلفة. ومن الواضح أنَّ اهتمام الاستشراق الأوروبيِّ بالكتاب الإلهيِّ لم يقتصر على المجال اللّاهوتيِّ في الدَّائرتين اليهوديَّة والمسيحيَّة، وإنَّما شمل مجمل المعارف، والعلوم الإنسانيَّة في المجتمع الثَّقافيِّ الغربيِّ.
لقد تناول المستشرقون الغربيِّون القرآن بالدَّرس، وإصدار الأحكام استنادًا إلى ترجمته، وطريقة فهم كلِّ مترجم لسورهِ وآياته، وطبقًا لمنطق الُّلغة الَّتي يتكلَّمها. هذا الأمر جعل عمليَّة التَّرجمة، والنَّقل محدَّدة بحرفيَّة الكلام، ومحكومة بأمورٍ لاهوتيَّة وحضاريَّة. بل أكثر من ذلك، ذهب معظم المستشرقين إلى التَّعامل مع القرآن طبقًا للمنهج التَّاريخانيِّ العلمانيِّ، وليس بوصفه كتابًا وحيانيًّا نزل على قلب النَّبيِّ الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ممَّا أدَّى إلى حَرفِهِ عن مقاصده والتَّعامل معه كأيِّ نصٍّ أدبيٍّ، أو تاريخيٍّ آخر.

هذا الكتاب الَّذي بين أيدينا صدر حديثًا عن «المركز الإسلاميِّ للدِّراسات الاستراتيجيَّة» ضمن «سلسلة القرآن في الدِّراسات الغربيَّة»، وشارك فيه مجموعةٌ من الباحثين المتخصِّصين من لبنان، والعالمَين العربيِّ والإسلاميِّ. وحين نقرأ مقدِّمتَه التَّعريفيَّة سيتَّضح لنا الهدف، والغاية من المقاربات النَّقديَّة، والاستهدافات الَّتي حملت الدَّوائر الاستشراقيَّة على توظيف المشروع التَّرجميِّ، ووضعه في سياق الصِّدامات الحضاريَّة الكبرى بين الإسلام والغرب. وهذا ما أشارت إليه مقدِّمة المركز حين عرضت إلى الحقبة الَّتي شهدت حيويَّة ناشطة من جانب مراكز الأبحاث، والجامعات لترجمة ودراسة القرآن الكريم. فقد عمل المستشرقون الغربيِّون مبكِّرًا على ترجمته إلى الُّلغات الأوروبيَّة المختلفة؛ حيث ظهرت أوَّل ترجمة إلى الُّلغة اللَّاتينيَّة ما بين 1136-1157م، ثمَّ توالت من بعدها ترجمات أخرى إلى الإنكليزيَّة، والفرنسيَّة، والألمانيَّة، وغيرها... غير أنَّ أغلبها اشتمل-عن قصد أو عن غير قصد -على أخطاء فادحة، ومغالطات خطيرة، موزَّعة الموضوعات والدَّلالات، ومتنوِّعة الخلفيَّات، والأهداف. ومن الواضح، بحسب التَّتبُّع التَّاريخيِّ، أنَّ دوافع هذه التَّرجمة عند طائفة كبيرة من المستشرقين ترتبط بتعصُّبهم، ومحاربتهم للقرآن والإسلام، هذا فضلًا عن الأهداف المرتبطة بالتَّبشير، وتكريس الادِّعاءات حول بشريَّة النَّصِّ القرآنيِّ وتاريخيَّته. ولعلَّ أبرز الملاحظات المنهجيَّة الَّتي ذكرتها المقدِّمة، وتضمَّنتها مجمل الأبحاث الواردة في الكتاب، أنَّ هذه التَّرجمات كانت قاصرة عن أداء معاني القرآن وأسلوبه المُعجز... بل إنَّ بعضهم تعمَّد تحريف هذه المعاني، فتذكُر بعض الدِّراسات أنَّ غرض المستشرقين من التَّرجمة هو تحريفه وتشويهه، وتقبيحه في أعين عوامِّهم، خوفًا من أن يتأثَّروا بالإسلام الَّذي كان ينتشر بسرعة في أوساط أهل الأديان...، وبالفعل، فقد أسهمت هذه التَّرجمات المشوِّهة للقرآن الكريم في زرع الحقد، والكراهيَّة للإسلام ونبيِّه، ما استدعى ردودًا من قِبَل علماء مسلمين في العقود المنصرمة، ويستدعي بذل الجهود المضاعفة في تقويمها، ونقدها في الواقع الرَّاهن.

على أيِّ حال، فإنَّ الأبحاث الجماعيَّة الَّتي تضمَّنها هذا الكتاب سعت، ومن زوايا مختلفة، لإنجاز مقاربات علميَّة، وتأصيليَّة، ونقديَّة للمشروع الاستشراقيِّ حيال القرآن الكريم. ومن الجدير بالذِّكر أنَّ هذه المقاربات لم تُسقط من حسابها عنصر التَّمييز بين الجانب العلميِّ، والجانب التَّوظيفيِّ والإيديولوجيِّ. كما أنَّ عددًا من الأبحاث تطرَّق إلى مسألة في غاية الأهميَّة، وهي الموقف (العقائدي)، والفقهيُّ الإسلاميُّ من ترجمة الكلام الإلهيِّ. على الإجمال، فقد تناولت الأبحاث الَّتي شارك فيها عدد من الباحثين، والمتخصِّصين من العالمين العربيِّ والإسلاميِّ أبرز القضايا، والمشكلات الَّتي واجهت ترجمة المصحف الشَّريف. وقد جاءت وفق التَّرتيب الآتي:

أوَّلًا: مدخلٌ منهجيٌّ للكتاب تحت عنوان «ترجمات المستشرقين للقرآن الكريم-مقاربة تقويميَّة-» كتبه الشَّيخ (من) لبنان حسين الزَّين.
ثانيًا: المستشرقون الغربيِّون وترجمة القرآن الكريم/ أ.د. جميل حمداوي.
ثالثًا: أهداف المستشرقين في ترجمة القرآن/ د. محمد حسن زماني؛ بختيار إسماعيلوف.
رابعًا: ترجمات القرآن الكريم إلى الفرنسيَّة -قراءة في الآليَّات والخلفيَّات/ د. مكي سعد الله.
خامسًا: ترجمات معاني القرآن الكريم إلى الفرنسيَّة: الدَّوافع والأهداف والمغالطات -ريجيس بلاشير وجاك بيرك أنموذجين-/ د. وليد كاصد الزَّيدي.
سادسًا: القرآن الكريم في الدِّراسات الاستشراقيَّة الفرنسيَّة-مناولة بلاشير أنموذجًا-/ د. أنس الصنهاجي.
سابعًا: ترجمات القرآن الكريم إلى الُّلغة الإنكليزيَّة-دراسة تطبيقيَّة مقارنة لسورة الإنسان-محمود واعظي.
ثامنًا: تقنيَّات اختيار المعادِلات المناسبة للأسماء القرآنيَّة الخاصَّة-دراسة توصيفيَّة لخمس ترجمات إنكلِّيزيَّة-د. السَّيِّد عبد المجيد طباطبائي لطفي.
تاسعًا: المعادِلات الإنكليزيَّة لمفردات سورة الفاتحة-دراسة تطبيقيَّة لترجمات إنكليزيَّة-د. علي رضا أنوشيرواني.
عاشرًا: ترجمة القرآن الكريم إلى الُّلغة الألمانيَّة-دراسة نقديَّة-/ د. الشَّيخ محمد علي الرِّضائي؛ إستيفان فريدريش شيفر.
حادي عشر: الاستشراق الإسرائيليُّ وأثره في ترجمات معاني القرآن الكريم إلى العِبريَّة/ م.م. محمد نجم حمزة فليح الرَّفيعي.
ثاني عشر: حركة الاستشراق الرُّوسيِّ وترجمة معاني ألفاظ القرآن الكريم/ م.م. محمد عبد علي حسين القزاز.
ثالث عشر: ترجمات القرآن إلى لغات البلقان-دراسة تحليليَّة تاريخيَّة-/ د. حامد ناصر الظالمي.

المستشرقون اليهود كنموذجٍ تأسيسيٍّ للتَّرجمة
لم يكن دخول اليهود في مجال الاستشراق سوى محاولةٍ للنَّيل من الإسلام ومن شريعته المقدَّسة، واستمرارٍ للنَّهج اليهوديِّ القديم في محاولة تشويه عقائد المسلمين، ولا سيَّما عقيدة التَّوحيد. في هذا المجال، يقول الباحث الإسلاميُّ الروسيُّ أحمد سمايلوفتش في كتابه «فلسفة الاستشراق»: «لا سبيل إلى التَّحفُّظ إطلاقًا في ما يتعلَّق بخدمة المستشرقين اليهود للصُّهيونيَّة العالميَّة؛ لأنَّ هذه الظَّاهرة تبدو بارزة تمامًا؛ وخصوصًا في البحوث الَّتي تتناول الإسلام والمسلمين عامَّة؛ والعرب خاصَّة».
على هذا النَّسق، غالبًا ما كانت تتركَّز اهتمامات المستشرقين اليهود على محاولة إثبات أنَّ مصدر التَّشريع الإسلاميِّ هو تأثُّر النَّبيِّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بالتَّوراة؛ وبالدِّين اليهوديِّ، من خلال الاستماع، أو التَّأثُّر باليهود الَّذين كانوا يجاورونه في المدينة المنوَّرة. ومنشأ هذه العداوة الَّتي ركَّزت على مصدر التَّشريع الإسلاميِّ؛ أنَّ القرآن الكريم يكشف عنصريَّتهم، وخصوصًا فكرة شعب الله المختار الَّتي يؤمنون بها.

لقد تمكَّن اليهود من الدُّخول إلى حلبة الاستشراق؛ ولا سيَّما في أعقاب تحرير يهود أوروبا الوسطى والغربيَّة، ثمَّ دخولهم إلى الجامعات، إذ «وجدت الحركة الاستشراقيَّة فيهم ما لم تجده في سائر المستشرقين؛ ويعزو بعض الباحثين السَّبب إلى أنَّ العلماء اليهود في الغرب كانوا أكثر إلمامًا بالتُّراث الإسلاميِّ والعربيِّ من غيرهم من الأوروبيِّين؛ وذلك لتقارب الُّلغة العربيَّة مع لغة ديانتهم العبريَّة». ومع أنَّ المستشرقين اليهود كانوا يعملون في مدارسَ استشراقيَّةٍ غربيَّة مختلفة في الأسلوب والمنهج؛ لكنَّهم كانوا من أكابر باحثي هذه المدارس، وأساتذتها المسيطرين بأفكارهم عليها؛ فمثلًا: أغلب المستشرقين الرُّوس كانوا من اليهود. ومن المعلوم أنَّهم، من خلال نفوذهم، يعملون على استثمار كلِّ شيء من أجل مصالحهم الاقتصاديَّة أوَّلًا. وقد ساعد على ذلك ظهور فكرة الاستيطان في فلسطين، والسَّعي لجعلها وطنًا قوميًّا لهم. وما دام التَّفسير اليهوديُّ هو المسيطر على تفسيرات الاستشراق الغربيِّ عمومًا؛ فلا بأس من توجيه أغلب الجهود الاستشراقيَّة نحو هدف اليهود، واستثمار ذلك في دراسة مهد الكتاب المقدَّس في الشَّرق العربيِّ، ودراسة فلسطين؛ أرضًا، وشعبًا، وتاريخًا، وتراثًا، وعادات، وجغرافيا؛ للتَّمهيد لوطن يجمع شتات اليهود من كلِّ أصقاع الأرض. إلى ذلك، ساهم أدب الرِّحلات الأوروبيَّة، في تقديم صورة كاملة عن فلسطين. بل يمكن القول إنَّ ازدهار الحياة الدِّينيَّة، والثَّقافيَّة في المجال اليهوديِّ-العبريِّ؛ مضافًا إلى ازدهار النَّشاط الاستشراقيِّ المرتبط بهما، يشكِّلان معًا الأرضيَّة الَّتي أدَّت إلى استفادة المشروع الصُّهيونيِّ من الاستشراق الأوروبيِّ. ولعلَّ من أبرز الأمثلة على ذلك قيام المستشرق اليهوديِّ سولومون مونك بدراسة فلسطين دراسة علميَّة شاملة، وتأليفه كتابًا اعتمدت عليه الصُّهيونيّة في معرفة هذه البلاد.
في عام 1864م، قام بعض المستشرقين اليهود الرُّوس بالذَّهاب إلى فلسطين سرًّا، وأقاموا ملاجئ، ومصحَّات، ومستشفيات، ودورًا للزوَّار اليهود الَّذين يزورون بيت المقدس من مختلِف أنحاء العالم. وقد ذكر ذلك المستشرق الرُّوسيُّ س.ل.تيخفسكي في كلمة له في مركز الدِّراسات الشَّرقيَّة التَّابع لأكاديميَّة العلوم في موسكو، حيث قال: «إنَّ جمعيَّة الاستشراق الرُّوسيِّ قد ساهمت مساهمةً فعَّالة في إنجاز، وتحقيق الوطن القوميِّ اليهوديِّ في فلسطين». ومن أبرز أقطاب المستشرقين اليهود:

-المستشرق المجريُّ «إجنتس جولد تسيهر» 1850-1921م
هو علم من أعلام الاستشراق الغربيِّ، زار مصر وأقام فيها فترة من الزَّمن، ثمّ انتقل إلى سوريا وفلسطين، وعمل أستاذًا في جامعة بودابست، وانتُخب مراسلًا، ثم عاملًا في الأكاديميَّة المجريَّة، ورئيسًا لأحد أقسامها. وتشير فهارس مؤلَّفاته إلى 592 بحثًا مختلفًا؛ جزءٌ كبيرٌ منها حول المذاهب والفِرَق، وجزءٌ آخر حول الحديث النَّبويّْ، إذ كان يحاول تطويع النُّصوص وفق أحكامه الخاصَّة المسبقة، ويهمل دراسة حاضر العالم الإسلاميِّ. ويؤخَذُ عليه عدم دقَّته في نقل النُّصوص وتحريفها.

-المستشرق الألمانيُّ «ابراهام جايجر» (1810-1874م)
هو حَبْر يهوديٌّ ألمانيٌّ تناول بالدِّراسة (المشابهة) بين القرآن، والكتب المقدَّسة عند اليهود؛ وله كتاب معروف بعنوان «ماذا اقتبس محمَّد من اليهوديَّة»، ركَّز فيه على أنَّ محمّدًا اقتبس كثيرًا من تعاليمه، ومفاهيمه، وآرائه من الدِّيانة اليهوديَّة ووضعها في قرآنه؛ بما يناسب التَّصوُّرات الَّتي كانت سائدة في عصره. وأنَّ قصص العهد القديم الَّذي يحتلُّ الجانب الأكبر من القرآن، أكبر شاهد على هذا الاقتباس!

-المستشرق الأميركيُّ «برنارد لويس» 1916-2018م
وُلِد في لندن، ودرس في جامعاتها، وتولَّى أستاذيَّة تاريخ الشَّرق الأوسط، والأدنى في جامعة لندن. عمل أستاذًا زائرًا في جامعات كاليفورنيا، وكولومبيا، وإنديانا. وشغل منصب أستاذ الدِّراسات الشَّرق أوسطيَّة في جامعة برنستون. وهو يمتاز بأنَّه قد جمع إلى يهوديَّته، ميله الشَّديد إلى الصُّهيونيَّة، وتسخير نفسه، وأبحاثه لخدمتها. وهذا ما أكَّده فرانسوا دي بلوا.

-المستشرق الهنغاريُّ «وارمينوس فامبري» 1832-1913م
هذا المستشرق اعتنق خمسة أديان، وخدم في ديانتين منها؛ بصفة رجل دين.
إلى هؤلاء جميعًا، هناك عدد آخر من المستشرقين أسهموا في المشروع الاستشراقيِّ الغربيِّ، كالمستشرق الألمانيِّ «يعقوب بارت» 1851-1914م، والإنكليزيِّ «ريتشارد جوتهيل» 1863-1936م، والألمانيِّ «جوزيف هور فيتش» 1874-1931م، والألمانيِّ «ماكس مايرهوف» 1874-1945م، والبولنديِّ دافيد بانت 1897، والنمساويِّ «باول كراوس» 1904-1944م، وغيرهم.

المستشرقون المسيحيِّون ودورهم
إلى جميع هؤلاء المستشرقين من اليهود، كان ثمَّة عدد كبير من الوسط اللَّاهوتيِّ المسيحيِّ، ممَّن ساروا على الدَّرب نفسه الَّذي رسمه الاستشراق اليهوديُّ حيال ترجمة القرآن الكريم. وفي سياق الأبحاث الواردة في الكتاب، سوف تتوضَّح لنا الأدوار الَّتي قام بها هؤلاء في التَّرجمة والتَّعليق، وإنشاء دراسات لا تنأى عن التَّوظيف الثَّقافيِّ والإيديولوجيِّ لخدمة السُّلطات الإستعماريَّة في بلادهم.

لقد كانت التربيَّة الإيديولوجيَّة، والنَّزعة العنصريَّة مسيطرتين على كتاباتهم. وفي هذا الإطار يذكر الباحث المصريُّ الدُّكتور محمَّد السَّيِّد الجليند في كتابه «الاستشراق والتَّبشير»: «إنَّ معظم المشتغلين بعلوم الشَّرق؛ قديمًا وحديثًا، من رجال الكهنوت المسيحيِّ، واليهوديِّ، ولا يمكن أنْ نتصوَّر هؤلاء مجرَّدين من عواطفهم الدِّينيَّة، بل إنَّهم كانوا مدفوعين إلى هذا الَّلون من الدِّراسات بدافع الانتصار لدينهم. إنَّ هذه النَّوايا الَّتي عبَّرت عنها نصوص أصحابها، تجعلنا نثق في صدق سيطرة السَّبب الدِّينيِّ، وهيمنته على الأسباب الأخرى. ومن هنا، فقد تنوَّعت الدِّراسات الإسلاميَّة عند المستشرقين، وتعدَّدت اهتماماتهم بالإسلام وحضارته؛ فمِن دَارِس للعقيدة وأصولها، وللفقه وأصوله، وَّ(للتاريخ) والحضارة، وللقرآن وعلومه، وللحديث ورجاله، وللُّغة وآدابها، َّ(للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)) وغزواته...».

ومن نماذج هذا التِّكرار، والاجترار لمقولات الأسلاف: التَّشكيك بصحَّة رسالة النَّبيِّ محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومصدر التَّشريع الإلهيِّ. في هذا الإطار، يقول المستشرق الألمانيُّ «نولدكه”: «إنَّ الوحي ظاهرة مرَضيَّة، وإنَّ النبيَّ كان مُصابًا بالصَّرع».
إلى هذا، لم يسلم القرآن من المستشرقين الأوروبيين على اختلافهم، حيث أنكر كثيرون منهم أنْ يكون القرآن الكريم تنزيلًا من الله العظيم. وفي ذلك، يقول المستشرق رودولف: «إنَّ القرآن ليس كلام الله؛ كما يعتقد المسلمون، ولكنَّه كلام محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّ محمَّدًا قد كتبه متأثّرًا بالبيئة الَّتي نشأ فيها؛ وهي مكَّة، وأنَّ اليهوديَّة، والمسيحيَّة لم تكونا مجهولتين في بلاد العرب، وأنَّ محمَّدًا قد نقل بعضًا من كتب اليهوديَّة والنَّصرانيَّة».

فضلًا عن ذلك، لم تسلم منهم السُّنَّة النَّبويَّة المطهَّرة، والأحاديث النَّبويَّة الشَّريفة أيضًا. يقول المستشرق اليهوديُّ المجريُّ «جولد تسيهر»: «إنَّ القسْمَ الأكبر من الحديث ليس إلَّا نتيجة للتَّطوُّر الدِّينيِّ، والسِّياسيِّ، والاجتماعيِّ للإسلام في القرنين الأوَّل والثَّاني». أي أنَّه يزعم أنَّ أغلب الأحاديث النَّبويَّة هي من نسج الصَّحابة والتَّابعين، بل يؤكِّد أنَّ العلماء كانوا يخترعون الأحاديث للدِّفاع عن الدِّين، حين لا يسعفهم ما يجدون من أحاديث في تحقيق أغراضهم، فيقول: «في العصر الأوَّل اشتدَّت الخصومة بين الأمويِّين، والعلماء الأتقياء الَّذين أخذوا يشتغلون بجمع الحديث والسُّنَّة. ونظرًا لأنَّ ما وقع في أيديهم من ذلك لم يكنْ ليسعفهم في تحقيق أغراضهم، أخذوا يخترعون من عندهم أحاديث رأوها مرغوبًا فيها، ولا تتنافى والرُّوح الإسلاميَّة، وبرَّروا ذلك أمام ضمائرهم بأنَّهم إنَّما يفعلون هذا في سبيل محاربة الطُّغيان، والإلحاد، والبعد عن سُنَن الدِّين».

هذه الاتِّهامات، والأباطيل ظلَّت متداولة على ألسُن المستشرقين الإسرائيليِّين المعاصرين؛ فعلى سبيل المثال، تقول المستشرقة «حافا لازروس يافا»: «من المؤكَّد أنَّه كانت في شبه الجزيرة العربيَّة يهوديَّة مبدعة عشيَّة ظهور الإسلام، وينبغي أنْ نسلِّم بأنَّها قد أثَّرت على العالَم الرُّوحانيِّ لمحمَّد». وتضيف: «يبدو أنَّ قريب زوج محمَّد -خديجة- كان معلِّمه في هذا الشَّأن، وأنَّه أفهمه سرَّ الباحثين عن الإيمان بإله واحد».

مواقف العلماء المسلمين
إذا كانت التَّرجمة-كما جاء في الكتاب الَّذي نتناوله بالعرض والتَّحليل-تستند إلى ثلاث مراحل أساس؛ هي: فهم النَّصِّ المنطلق، وتفكيك الشِّيفرة الأصليَّة، وإعادة التَّعبير في ضوء شيفرة النصِّ الهدف، فقد امتلأت تجارب الغربيين في ترجمة القرآن الكريم بالكثير من الشُّبهات. فمن الصَّعب الحصول على ترجمة صادقة، وأمينة، إذا كان المترجم غير متمكِّن بيانه في التَّرجمة نفسها، وفي وزن علمه في المعرفة نفسها، وينبغي أنْ يكون أعلم النَّاس بالُّلغة المنقولة، والمنقول إليها، حتَّى يكون فيهما سواء وغاية.

هذه القاعدة تنطبق جوهريًّا على ترجمة القرآن الكريم، على أساس أنَّه كلام مُعجِز، ويتجلَّى إعجازه في لغته العربيَّة، التي تحدَّت الشُّعراء العرب أنْ يأتوا بمثلها. وعندما يُترجَم إلى الُّلغات الأجنبيَّة يفتقد لذَّته الفنّيَّة والجماليَّة، وينعدم تأثيره البيانيُّ السَّاحر المبهر، ويغيب إعجازه الحقيقيُّ، ويصير مجرَّد كلام طبيعيٍّ يحمل إخبارًا، وتشريعًا، وتنبيهًا. لهذا السَّبب يرفض كثير من العلماء المسلمين أنْ يُترجَم القرآن الكريم إلى الُّلغات الأجنبيَّة؛ لارتباط الألفاظ بالمعاني ارتباطًا وثيقًا، ولأنَّ الكلمات القرآنيَّة لها معانٍ عدَّة تختلف من سياق إلى آخر. فقد نترجم بعض معاني الآيات الواضحة، والمحكمة، والظَّاهرة الدَّلالة، ولكنْ نفشل في ترجمة معاني الآيات المتشابهة. ولكن، رغم ذلك، يمكن أنْ نترجم معاني القرآن من أجل تقريبه من الأعاجم لهدايتهم، والتَّعريف بالإسلام، بشرط أنْ تحترم التَّرجمة المعنويَّة تركيب الُّلغة العربيَّة، ونظمها، وحقائق الشَّريعة الإسلاميَّة، ومقاصدها.
لقد وقف المسلمون من ترجمة القرآن الكريم مواقف مختلفة. فأجمع المالكيَّة، والحنابلة، والشَّافعيَّة، والظَّاهريَّة على منع قراءة القرآن في الصَّلاة بغير الُّلغة العربيَّة؛ أي لم يجيزوا القراءة بالُّلغات الأجنبيَّة. وفي هذا السِّياق، يقول ابن حزم: «ومن قرأ القرآن أو شيئًا منها مترجمًا، أو شيئًا من القرآن في صلاته مترجمًا بغير العربيَّة، أو بألفاظ عربيَّة غير الألفاظ الَّتي أنزل الله -تعالى-، عامدًا لذلك، أو قدَّم كلمة أو أخَّرها، عامدًا لذلك، بطُلت صلاته، وهو فاسق، لأنَّ الله تعالى قال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، وغير العربيِّ ليس عربيًّا، فليس قرآنًا، وإحالة رتبة القرآن تحريف كلام الله تعالى».

من جانبه، يحرِّم السُّيوطي قراءة القرآن بالُّلغة الأعجميَّة أو ترجمته. وفي هذا، يقول: «تحرَّم قراءته بالعجميَّة؛ أي بالِّلسان غير العربيِّ؛ لأنَّه يذهب إعجازه الَّذي أنزل له، ولهذا يترجم العاجز عن الأذكار في الصَّلاة، ولا يترجم عن القرآن، بل ينتقل إلى البدل. وتحرَّم بالمعنى قراءته، وإنْ جازت رواية الحديث بالمعنى؛ لفوات الإعجاز المقصود من القرآن».
لكنَّ الغرض-هنا-ليس أداء الصَّلاة بالُّلغات الأجنبيَّة والأعجميَّة، بل تقريب معاني القرآن الكريم وتفهيمها للَّذين لا يعرفون الُّلغة العربيَّة، وهذا جائز؛ ما دام المقصد التَّشريعيُّ هو نشر الإسلام، وتعميمه على البشريَّة كافَّة، وتوضيح رسالة النَّبيِّ محمَّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلَّا سنفرض على جميع الأمم أنْ يتعلَّموا الُّلغة العربيَّة؛ وهذا مُحال؛ لأنَّ الله جعل النَّاس شعوبًا، وقبائل مختلفة الألسُن ليتعارفوا، ولو أراد أنْ يوحِّدهم على لسان واحد لفَعل ذلك.
وأكثر من ذلك، فإنَّ ترجمته «من الأمور المرغوب فيها، بل يصحُّ لنا القول: إنَّها من فروض الكفاية الَّتي يجب على الأمَّة القيام بها. فإذا قام بها البعض سقط عن الباقين، وإنْ لم يقُم بها أحد أثِم الكلُّ. برهانُ ذلك أنَّه تبليغ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الَّذي قال: «فبلِّغ الشَّاهد الغائب». وقال: «بلِّغوا عنِّي ولو آية». وقد أوجب الله على رسوله التَّبليغ فقال: (يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)، فهو بلَّغ للعرب بلسانهم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)، ويجب على العرب أن ينوبوا عنه، ويبلِّغوا لغيرهم من الأمم. ولذا، قال لهم: «بلِّغوا عنّي ولو آية»، ولا يمكن التبليغ لجميع الأمم إلَّا بالتَّرجمة إلى لسانهم... ومن الواجب ترجمة القرآن العظيم لجميع اللُّغات ترجمة موفَّقة بقدر الإمكان.

هذا يعني أنَّ ترجمة القرآن الكريم، بمعناها التَّماثليِّ الحقيقيِّ، مستحيلة وغير ممكنة. بيد أنَّ حكم تقريب معاني القرآن إلى الأجانب هو الجواز والإمكان؛ كما ذهب إلى ذلك الحنفيَّة، والحجوي الثَّعالبي؛ لأنَّ القرآن مُعجز لفظًا، ومعنى، ومقصديَّة، وإيقاعًا، وتنغيمًا، ونظمًا. وبذلك، فمن المستحيل ترجمة هذه الظَّواهر النَّظميَّة، والبلاغيَّة، والتداوليَّة إلى الُّلغات الأجنبيَّة بشكلها الأصليِّ. لذا، يُكتفى-في الغالب-بتفسير معاني القرآن الَّتي تصبح تقريبيَّة ليس إلَّا.

في الجواب على السُّؤال حول إمكان ترجمة القرآن أصلًا، والتَّعرُّف إلى مقاصد الآيات البيِّنات، يرى العلماء أنَّ «للقرآن الكريم نواحي ثلاثًا تجمَّعْنَ فيه، وبذلك أصبح كتابًا سماويًّا، ذا قداسة فائقة، وممتازًا على سائر الكتب النَّازلة من السَّماء».
الأولى: كلام إلهيٌّ ذو قدسيَّة ملكوتيَّة، يُتعبَّد بقراءته، ويُتبرَّك بتلاوته.
الثانية: هدىً للنَّاس، يهدي إلى الحقِّ وإلى صراط مستقيم.
الثالثة: معجزة خالدة، دليلًا على صدق الدَّعوة عبر العصور.
وبعد، هل بإمكان التَّرجمة -من أيِّ لغةٍ كانت- الوفاء بتلكُمُ النَّواحي؟ وهل يمكن الحفاظ على النَّاحية الإعجازيَّة للقرآن -وخصوصًا الإعجاز البيانيَّ منه- إذا تمَّت المحافظة على المعنى؟ وهل يمكن الحفاظ على قداسة القرآن الَّتي هي مناط التَّعبُّد إلى اللّه والتَّقرُّب منه؟

لا شَكَّ في استحالة الحفاظ على معاني القرآن بتلك البلاغة الَّتي أنزلها اللّه تعالى، ونقلها كما هي في عمليَّة التَّرجمة. من هنا فإنَّ ترجمته مهما كانت دقيقة، وعلميَّة لا تمثِّل إلَّا جانبًا ضئيلًا من أبعاده، ولا يمكنها أن تشتمل على قداسته ذاتها؛ لأنَّ التَّرجمة ما هي إلَّا كلام المخلوق، والقرآن يبقى هو كلام الله. وترتيبًا على هذه الوجهة، يتحصَّل لدينا أن لا شيء من أساليب التَّرجمة يمكن عدَّه وافيًا بنقل القرآن إلى الُّلغات الأخرى، ولكنْ حيث لا مناص من القول بضرورة ترجمته إلى سائر الُّلغات فإنَّ أفضل أسلوب هو التَّرجمة الحُرَّة. ولئن كانت هذه الوجهة لا ترى استحالة ترجمته، إلَّا أنَّها تراها عمليَّة معقَّدة، وتواجه الكثير من العقبات الَّتي لا يمكن تجاوزها. وعليه، فإنَّ ترجمة القرآن ترجمة صحيحة ضرورة يستدعيها صميم الإسلام، وواقع القرآن، ويتَّضح من السِّيرة العمليَّة للمسلمين على طول تاريخ الإسلام هو وجود التَّبليغ، والدَّعوة، والوعظ والإرشاد في إطار بيان مفاهيمه بمختلف الُّلغات، وتوظيف التَّرجمة والتَّفسير في هذا النَّوع من الأنشطة التَّبليغيَّة، والثقافيَّة الواسعة.
إنَّ ترجمة القرآن كانت منذ القِدَم، ولا تزال، هي السِّيرة المتداولة بين علماء المسلمين، بل وحتَّى غير المسلمين؛ إذ كان لا بُدَّ من الحوار مع كلِّ قومٍ بلغتهم. وأمَّا من النَّاحية النَّظريَّة فإنّ مسألة جواز، أو عدم جواز التَّرجمة إلى اللُّغات الأخرى لم يتمَّ البحث، والحوار بشأنها بين علماء الإسلام في القرنين الأوَّلين. وبطبيعة الحال، هناك فتاوى مختلفة ومتعدِّدة بين فقهاء المذاهب بشأن قراءة القرآن بالُّلغات الأخرى، وهي تستند إلى المتبنَّيات الفقهيَّة الخاصَّة بكلِّ واحد منهم. فقيل مثلًا: إنَّ المذهب الشَّافعيَّ يؤكِّد عدمَ جواز قراءة القرآن بغير الُّلغة العربيَّة، لا في الصَّلاة، ولا خارجها. ونقل هذا الكلام عن مالك، وأحمد، وأبي داوود أيضًا. وقد نُسب إلى أبي حنيفة القول بجواز قراءة القرآن بالفارسيَّة سواء في الصَّلاة أم في غيرها، في حين قام إجماع فقهاء الشِّيعة على عدم كفاية التَّرجمة في قراءة الصَّلاة، وأنَّ قراءة التَّرجمة تبطل الصَّلاة. كما أظهروا اتفاقًا على عدم إجراء أحكام القرآن -بصورةٍ عامَّة- على ترجمته بأيِّ لغة.

من الواضح هنا أنَّ عدم ترتيب الأحكام الشَّرعيَّة على ترجمة القرآن، وعدم جواز قراءة الصَّلاة بغير العربيَّة، بل وحتَّى عدم جواز قراءة القرآن بغير العربيَّة حتَّى خارج الصَّلاة، لا تنهض دليلًا على عدم جواز ترجمته؛ لأنَّ الهدف من التَّرجمة لا ينحصر بهذه الأمور. وعليه، فإنَّ ترجمته ضرورةٌ لا يمكن إنكارها لتحقيق الهدف من نزوله، بمعنى أنَّ الهدف العام منه هو هداية الإنسان، وهذا الهدف لا يتحقَّق إلَّا من خلال إبلاغ المفاهيم، والمعاني القرآنيَّة السَّامية إلى جميع الشُّعوب والأمم بلغاتها. من هنا ذهب الشَّيخ معرفت إلى الاعتقاد بأنَّ ترجمة القرآن ضرورةٌ يقتضيها واجب التَّبليغ، والدَّعوة إلى الإسلام. وقد قال في هذا الشَّأن: «لم تسبق من علماء الإسلام نظرة منع من ترجمة القرآن، بعد أن كانت ضرورةً دعائيَّة لمسها دعاة الإسلام من أوَّل يومه».

مهما يكن من أمر، فرغم ذهاب العلماء المسلمين سنَّةً، وشيعةً إلى تأييد ترجمة القرآن بشدَّة، لاعتبارات وضرورات دعويَّة، وحضاريَّة، وخصوصًا للمجتمع المسلم غير النَّاطق بالعربيَّة، إلَّا أنَّهم يحترزون من غياب الدِّقَّة، والاختصاص في عمليَّة التَّرجمة. ولذلك، رأى بعضهم لزوم ضبط التَّرجمة الصَّحيحة للقرآن، من خلال جملة من الشُّروط:

أوَّلًا-علم بالعربيَّة: الُّلغة الَّتي نزل بها القرآن الكريم
ثانيًا-علم بالِّلسان المنقول إليه. أي إلى غير لسان العرب: ذلك بأنَّ مهمَّة المترجم أن يُعِدَّ للنصِّ المترجَمِ ما وَسِعَتـْه قدرتُهُ من إحاطة بقواعد اللُّغة، في نحوها، وصرفها، وبناءاتها، وتراكيبها.
ثالثًا- علم بنوع النَّص: ومقتضاه أن يكون المترجمُ فاهمًا محتوى النَّصِّ ومقصده. وهذا المقتضى هو من الشُّروط الأوّليَّة الَّتي ينبغي على المترجم حيازتها. فالمترجم العارف بالفلسفة -على سبيل المثال- يقدر على مقاربة النَّصِّ الفلسفيِّ أكثر ممَّا يقدر عليه آخرون ممَّن لا ذائقة لهم بهذا الفنِّ. كذلك الأمر ما يعني الشِّعر أو النَّثر، حيث لا يفلح المترجم ها هنا في بلوغ تراكيبها الرَّمزيَّة ما لم يكن قد ألِف لغتها، ووقف على أسرارها. وبإزاء مشكلة الفهم، يذهب الباقلانيُّ إلى أنَّ الله تعالى «جعل عجز الخلق عن الإتيان بمثل القرآن دليلًا على أنَّه منه، وجليلًا أساسًا على وحدانيَّته». ثم يمضي إلى ما هو أبعد؛ ليبيِّن أنَّ فهم الكلام الإلهيِّ يتجاوز حدود الوعي اللِّسانيِّ ليصل إلى تمثُّل هذا الكلام من خلال قبوله والإقبال إليه. «فمن كانت بصيرته أقوى، ومعرفته أبلغ كان إلى القبول منه أسبق، ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز، أو خفي عليه بعض شروط المعجزات، وأدلَّة النبوَّات كان أبطأ إلى القبول حتَّى تكاملت أسبابه، واجتمعت له بصيرته، وترافدت عليه موادُّه». لذا، فإنَّ المتناهي في الفصاحة من سمع القرآن عرف أنَّه مُعجز؛ لأنَّه يعرف من حال نفسه أنَّه لا يقدر عليه. فما الَّذي نعنيه إذًا بالفهم؟
لقد استخدمت التَّفاسير، والمصادر القرآنيَّة مصطلح الفهم بكثرة، وكان الكلام يدور تارة على فهم الآيات القرآنيَّة، وأخرى على قواعد الفهم، وشروطه. وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ الفهم يُعدُّ نوعًا من أنواع الإدراك مثله مثل الظَّنِّ، والشُّعور، والذِّكر، والعرفان، إلخ... وذهب آخرون إلى أنَّه يعني الألفة مع الشَّيء، فتقع به المعرفة بالقلب، ولذا فهو تصوُّر عميق للمعنى من لفظ المخاطب عند السَّماع، أو الإشارة، وقيل إنَّه «إدراك خفيٌّ دقيق، ولذا فهو أخصُّ من العلم، لذا لا يصحُّ أن يوصف به الله تعالى؛ لأنَّ الإدراك في الفهم متفاوت».
خلاصة القول: إأنَّ أعمال المستشرقين وأنشطتهم المعروفة في ترجمة القرآن الكريم، لم تندرج في الغالب الأعمِّ، ضمن السِّياق الموضوعيِّ للبحث العلميِّ. أي أنَّها كانت أقرب إلى التَّوظيف السِّياسيِّ، والثَّقافيِّ الَّذي مارسته دوائر القرار في الدُّول الأوروبيَّة الطَّامحة لاستعمار البلاد الإسلاميَّة، والسَّيطرة عليها ثقافيًّا، واقتصاديًّا، وحضاريًّا. ولعلَّ هذا الاهتمام بالقرآن بوصفه الكتاب المقدَّس لدى المسلمين إنَّما يدخل ضمن استراتيجيَّتها الثَّقافيَّة العليا الهادفة إلى تحويره وتشويه مقاصده الَّتي تعني الحضارات البشريَّة كلَّها.

--------------
[1][*]- صحافيٌّ وباحث في الدِّراسات المعاصرة -لبنان.