البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ترجمة القرآن في الاستشراق الفرنسيّ ـ قراءة نقديّة ـ

الباحث :  حمدان العكله
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  36
السنة :  خريف 2023م / 1445هـ
تاريخ إضافة البحث :  October / 31 / 2023
عدد زيارات البحث :  4842
تحميل  ( 630.088 KB )
الملخّص
تحتلُّ المدرسة الاستشراقيَّة الفرنسيَّة الرِّيادة بين مدارس الاستشراق الغربيَّة، بوصفها السَّبَّاقة في هذا الميدان، إضافة إلى تنوُّع موضوعاتها وتعدُّدها، كما كان لمدرستها الاستشراقيَّة الدَّور الكبير في تمهيد الطَّريق لوصول الاستعمار الفرنسي إلى الشَّرق، وقد كان لها أثربالغ في حياة المجتمعات التي كانت تحت نيرها حتَّى بعد خروجها، وانتهاء حقبة الوصاية. لقد تميَّزت المدرسة الفرنسيَّة باهتمامها بترجمة القرآن الكريم حيث تبنَّت المؤسَّسات البحثيَّة، والهيئات السِّياسيَّة، والدِّينيَّة عمليَّة التَّرجمة، إذ كانت هذه التَّرجمات تتمُّ على شكلين: الأوَّل، ترجمة حرفيَّة للكلمات، والثَّاني، ترجمة تفسيريَّة تعتمد على المعنى، وهذا النَّوع فتح الباب أمام المستشرقين لإدخال تفسيرات تتناقض مع المعنى الحقيقي للنَّصِّ الأصلي.
استخدمت مدرسة الاستشراق الفرنسي أدوات إجرائيَّة خلال ترجمتها للقرآن الكريم، أثَّرت بشكل كبير على موضوعيَّة التَّرجمة، إضافة إلى استخدام المنهج الفيلولوجي بهدف إثبات تأثُّر النَّص المقدَّس باليهوديَّة، والنَّصرانيَّة، وبغيرها من الحضارات، والثَّقافات الَّتي كانت سائدة مع ظهور الدَّعوة الإسلاميَّة، ممَّا قاد إلى القول بوجود تباين بين الخطاب الإلهيِّ الذي نزل على محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبين الكلام المدوَّن في المصحف، وإحداث تغيير في ترتيب السُّور، والآيات القرآنيّة، ثمَّ إضفاء الطَّابع الأيديولوجي على النُّصوص المترجمة عبر تحريف دلالات بعضها، وبالتَّالي الوصول للقول ببشريَّة النَّصّ ِالقرآني، وإيصال رسالة لشعوبهم تفيد بأنَّ النص القرآني المعتمد بالمصحف عند المسلمين هو نصٌّ قد انتابه الكثير من التَّعديل والتَّحريف، وهو في أصله نصٌّ توراتي، أو إنجيلي قد عدَّله رسول الإسلام حتَّى يتناسب مع قومه ومع رسالته.

الكلمات المفتاحية: الاستشراق الفرنسي، التَّرجمة، القرآن الكريم، السُّور والآيات، الأيديولوجيا.

التَّمهيد
إنَّ القرب الجغرافيَّ بين فرنسا، وبلاد الأندلس سمح للفرنسيِّين بالتَّعرُّف إلى الحضارة العربيَّة، والتَّاريخ الإسلامي، الأمر الَّذي جعل ظهور المدرسة الاستشراقيَّة الفرنسيَّة مسألة طبيعيَّة، كما جعل الاتِّساع والتَّنوعَ سمة الموضوعات الَّتي تناولتها، فالتَّوتُّر السِّياسي، والتَّنافس الحضاري مع الحضارة الإسلاميَّة المجاورة لها، دفعها لمعرفة كلِّ التَّفاصيل عنها، حيث جعلت فرنسا الاستشراق، وسيلة دفاع ضدَّ التَّوسُّع الإسلامي، ثم تحوَّل الاستشراق لوسيلة استعماريَّة استخدمتها فرنسا للهيمنة على الشَّرق، لهذا لم يقتصر اهتمامها على الحضارة العربيَّة، بل تعدَّاها لدراسة الحضارة التِّركيَّة، والفارسيَّة، وثقافتهما.

لقد ظهرت نتائج الاستشراق الفرنسي عبر قدرة فرنسا على السَّيطرة على عدد من مناطق النُّفوذ الاستعماريَّة في بلدان الشَّرق، ولعلَّ بوادرها كانت من خلال الحملة الفرنسيَّة على مصر 1798م، ثمَّ انتقال سيطرتها إلى بلدان المغرب العربي، والَّتي عانت من سياسة الفَرْنَسة عبر فرض اللُّغة الفرنسيَّة، ومحاربة اللُّغة العربيَّة، والتَّاريخ العربي، والإسلامي.
البحث محاولة لتسليط الضَّوء على المدرسة الاستشراقيَّة الفرنسيَّة، وماهيَّتها بشكلٍ عامٍّ، ثمَّ الوقوف على ترجمة القرآن، ودوافعها، وأسبابها، ومعاينة الأدوات الإجرائيَّة الَّتي اُستخدمت في ترجمة النُّصوص القرآنيَّة، هذه الأدوات الَّتي مهَّدت للتَّلاعب بترتيب سور القرآن، والتَّغيير في معانيها، وإضفاء الطَّابع الأيديولوجي عليها، وصولًا إلى القول بأنَّ النَّصَّ القرآني هو كلام بشريٌّ أوجده محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعدَّل عليه أتباعه، وأنَّه متأثِّر بالحضارات، والثَّقافات السَّابقة ممَّا يفند قداسته.

أوّلًا- الاستشراق الفرنسي وترجمته للقرآن الكريم
إنَّ ترجمة القرآن أمرٌ قد حَدَثٌ في السَّاحة الفكريَّة بشكل عامٍّ، وفي المدراس الاستشراقيَّة بشكلٍ خاصٍّ، ومن الملاحظ أنَّ ترجمة القرآن بالتَّحديد كانت تتمُّ عبر مؤسَّسات بحثيَّة، أو هيئات سياسيَّة، ودينيَّة في العالم الغربي، وهي في أغلبها ليست مجرَّد نشاط شخصي، أو اجتهاد لمستشرق من المستشرقين، وهو الأمر الَّذي سنجده في مدرسة الاستشراق الفرنسيَّة الَّتي أسَّست لها النسخة القرآنيَّة المترجمة من قِبَل دير كلوني برعاية (بطرس المبجل) في القرن الثَّاني عشر الميلادي، أي إنَّها ترجمة رعتها الكنيسة، وبالتَّالي فإنَّ التَّرجمات الفرنسيَّة نشأت بالأساس من التَّرجمات اللَّاتينيَّة، ولعلَّ أبرزها ترجمة دورييه عام 1647م والَّذي كان يعمل قنصلًا لفرنسا في مصر، وترجمة سافاري 1783م، وسيكي عام 1832م، ومونتيه عام 1929م، وبلاشير عام 1947م، وماسون عام 1975م، وغيرها[2].

لقد كانت التَّرجمات الفرنسيَّة للقرآن، كحال بقيَّة ترجمات القرآن للغات عالميَّة، منقسمةً إلى قسمين؛ الأوَّل، ترجمة حرفيَّة للكلمات القرآنيَّة، وهي التَّرجمات الَّتي تقتصر على استبدال الكلمة بكلمة مقابلة لها في اللُّغة الفرنسيَّة، وهذه التَّرجمة لا تعطي معنى دقيقًا للنَّصِّ القرآني المترجم، لعدم قدرة اللُّغة الأخرى (غير العربيَّة) علَّة تأدية المعنى القرآني نفسه، بسبب البلاغة القرآنيَّة، وطبيعة اللُّغة العربيَّة؛ إلَّا أنَّها تبقى ترجمة أقلَّ خطًا من القسم الثَّاني، والَّذي يقوم على التَّرجمة التَّفسيريَّة، الَّتي تعتمد على المعنى، وقيام هذه التَّرجمة على المعنى لا بدَّ أن يعود إلى طبيعة الفهم الَّتي يملكها المستشرق للنَّصِّ الأصلي، ومدى تمكُّنه من اللُّغة ومعانيها، وسعة اطِّلاعه على كتب التَّفسير، مع الأخذ بعين الاعتبار الإعجاز اللُّغوي للقرآن الكريم، ما فتح الباب أمام المترجمين المستشرقين لإدخال تفسيرات تتناقض مع المعنى الحقيقي للنَّصِّ الأصلي، خاصَّة وأنَّ هذه التَّرجمات يعود فضل ترجمتها إلى مؤسَّسات، وهيئات سياسيَّة، مع الإشارة إلى علاقة فرنسا بالعالم العربي، أو الإسلامي الَّتي لم تكن سوى علاقة عدوانيَّة، فحملات فرنسا على إفريقيا، وعلى البلدان العربيَّة، والاستيلاء على ثرواتها جعل العلاقة في حال من التَّوتُّر، إن لم نقل في حال من الحرب المستمرَّة، الأمر الَّذي جعل موضوع التَّرجمة الاستشراقيَّة ذا المرجعيَّة السِّياسيَّة أمرًا مشكوكًا بنزاهته، وموضوعيَّته، كما أنَّ حال الصِّراع التَّاريخيِّ للفرنسيين بشكل خاصٍّ، والأوروبيِّين بشكلٍ عامٍّ مع الحضارة الإسلاميَّة في الأندلس جعل من ترجمتهم للقرآن موضوعًا مريبًا، ولعلَّ حادثة إخفاء النَّسخة المترجمة من القرآن إلى اللُّغة اللَّاتينيَّة من قِبَل (دير كلوني) بوصفه هيئة دينيَّة وسياسيَّة، خير مثال على عدم نزاهة الغاية من التَّرجمة، وتناقضها مع مبدأ العلم، والبحث العلمي[3].

امتاز الاستشراق الفرنسي عن غيره من مدارس الاستشراق بقدرته على الوصول إلى دراسة المجتمعات الإسلاميَّة بشكل دقيق جدًّا، وذلك يعود إلى استعمار فرنسا لعدد كبير من الأراضي الإسلاميَّة، هذا الأمر مكَّنها من التَّعرُّف إلى العادات، والتَّقاليد، والقيم الإسلاميَّة الممارَسة في هذه المجتمعات من قرب، فهي لم تكتفِ بالدِّراسة النَّظريَّة كحال الكثير من المدارس الاستشراقيَّة الَّتي قد تقتصر مهمَّة المستشرق فيها على زيارات لبعض المدن، أو البلدان المدروسة، هذا الأمر جعل معرفة الفرنسيِّين أكبر، وجعل غاياتهم أخطر، إذ يعود تاريخ هذا الاحتكاك إلى عصر الدَّولة الإسلاميَّة في الأندلس، وإلى علاقة الفرنسيِّين التَّاريخيَّة مع الخلفاء المسلمين (هارون الرَّشيد)، ثمَّ إلى مدَّة الحروب الصَّليبيَّة، ودور فرنسا القوي في الحملات، ونذكر في مرحلة أكثر حداثة أنَّ حملة نابليون بونابرت على مصر، وخطابه الأوَّل الموجَّه للشَّعب المصري قد بدأ بالبسملة، وبأسلوب ديني يحاكي ما كان سائدًا في البلاد الإسلاميَّة، -كما يذكر الباحث عبد الرَّحمن الجبرتي ذلك في عدد من كتاباته (عجائب الثَّار في التَّراجم والخبَّار)- وقد استمرَّت منشوراته للشَّعب المصري معزَّزة بآيات قرآنيَّة، ولم يتردَّد نابليون لحظة في مشاركة المسلمين في أعيادهم، ومواسمهم واحتفالاتهم كافَّة[4]، كما يعود إلى صلة فرنسا بالبلاد الإسلاميَّة في عهد الاستعمار الأوروبي الحديث، هذا الاحتكاك الفرنسيُّ بالشُّعوب الإسلاميَّة –وإن كان احتكاكًا سلبيًّا- إلَّا أنَّه مكَّنهم من الانتقال بالتَّرجمة عن اللُّغة اللَّاتينيَّة إلى اللُّغة العربيَّة، حيث بات بالإمكان ترجمة القرآن بشكل مباشر عن اللُّغة العربيَّة (اللُّغة الأصليَّة)، وهو الأمر الَّذي فعله المستشرق بلاشير.
إنَّ ترجمة القرآن إلى اللُّغات الأوروبيَّة، ثمَّ إلى الفرنسيَّة، تشغل حالة اللَّاوعي في العقل الغربي، لعدِّه العمليَّة، أو الوسيلة الهجوميَّة الأساس بعد الوسيلة العسكريَّة، هذه الوسيلة عبر تاريخها، وتطوُّراتها كانت تستمدُّ قوَّتها من حال اللَّاوعي الَّتي يتمُّ تعزيزها كلَّما شعروا بإمكانيَّة خطر إسلامي، فالمترجمون في غالبهم «لم يتجشَّموا عناء استيعاب النَّصِّ القرآني، ومعاني الألفاظ ودلالاتها، ولم يهتموا بأسباب النُّزول وحيثيَّاته، وقواعد الأحكام الفقهيَّة، وأصول الدِّين، وغيرها من الأحكام والضَّوابط، ولم يكونوا من الملمِّين بتفاصيل علم النَّحو، وجزئيِّاته الدَّقيقة، وعلم البلاغة والبيان»[5]، فبما أنَّ الهدف ليس علميًّا بحتًا يمكن القول إنَّ الجانب العلمي يتمُّ تأخيره، وتقديم الوظيفة السِّياسيَّة، أو الانتقاميَّة من الدِّين، ومن الشُّعوب الإسلاميَّة، وهذا ما جرت عليه أغلب التَّرجمات الاستشراقيَّة، فترجمة سافاري الصَّادرة عام 1751م تشير منذ البداية إلى أنَّ هذا القرآن انتابه الكثير من التَّلاعب البشري من قبل النَّبيِّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فغيَّر فيه بشكلٍ يحشد أتباعًا لدينه الجديد، ويعزِّز من موقفه بين قومه وبين الأقوام الأخرى[6].

كما أنَّ ترجمة بلاشير تنطوي على مغالطة كبيرة لا يمكن تجاوزها، على الرَّغم من تقبُّلها من قِبَل عدد كبير من الباحثين، والمختصِّين في العلوم الإسلاميَّة، والقرآنيَّة ومن مختصِّي التَّرجمة، فقد وقع فيها التَّلاعب في ترتيب سور القرآن الكريم، كما تضمَّنت مقدِّمة طويلة، وتفسير قصير، وقد رُتِّب القرآن فيها وفقًا لما ظنَّه بأنَّه التَّرتيب الصَّحيح في النُّزول للسُّور والآيات، ونتيجة للانتقادات الكثيرة الَّتي طالت هذه النَّسخة عاد ونشر نسخة محدَّثة أقلُّ تجاوزًا، وجعل ترتيب السُّور القرآنيَّة بشكلها الصَّحيح كما هي في القرآن الكريم[7].

لقد كان بلاشير ضحيَّة للمركزيَّة الأوروبيَّة، فقد ادَّعى تفوُّق العنصر الغربي حضاريًّا وفكريًّا، متأثّرًا بصديقه المستشرق البريطاني (هاملتون جيب)، ممَّا جعله يعمِّم ذلك في ترجمته للقرآن، ليبدأ بالقول إنَّ هذا القرآن من تأليف محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنَّ محمّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخذه من الحضارات السَّابقة له، والَّتي هي في معظمها كانت تعتنق الدِّيانة المسيحيَّة، وهي حضارات غربيَّة من يونانيَّة، ورومانيَّة، وغيرها، ليظهر تمييز بلاشير بين الإنسان الغربي، والشَّرقي، والقول بعدم كفاءة الفكر الشَّرقي عمومًا، والإسلامي خصوصًا، فيذهب إلى أنَّ عقلية الإنسان العربي، حتَّى ذلك الَّذي احتكَّ بالعالم الغربي، أو الخارجي -حسب تعبيره - غير قابلة للتَّحرُّر من الميل لمراقبة الأحداث الملموسة، وبصورة مجزَّأة، فهي خاصيَّة مميَّزة للفكر الشَّرقي[8]، ومن هنا كانت هذه الميِّزة تكبِّل العقل الشَّرقي، والإسلامي من دون أن تجعله يخطو لتجاوز هذه التَّصوُّرات.

وكذا الحال في ترجمة جاك بيرك للقرآن، والتي جاءت ترجمة مؤطَّرة بنظرة ضيِّقة، معترفًا بأنَّه أغرقها بفكره، ومعتقداته، وتسبَّب بغضب المفكِّرين المسلمين، وانتقادهم له، إضافة إلى ضعفه باللُّغة العربيَّة، فكيف يكون مترجمًا لأدقِّ كتاب عند المسلمين وهو كتابهم المقدَّس المملوء بالبلاغة، والصُّور البيانيَّة، وهو غير متقن للغته بشكلٍ صحيح، فأسلوبه في التَّرجمة «لا تتمتَّع به ترجمات سافاري، أو مونتيه، أو ماسون على سبيل المثال من سهولة، وسلاسة وانسيابيَّة. إنَّ في لغة بيرك عسرًا، وحذلقة للأسف يجعلان قراءة ترجمته عملًا غير مريحٍ، على أنَّ هذه المقارنة لا تعني أنَّ ترجمة سافاري أدقَّ من ترجمة بيرك مثلًا، إذ إنَّ سافاري لم يتقيَّد في ترجمته إلَّا بالمعنى العامِّ، أو المقارب في كثير من الأحيان، كما أنَّ في ترجمة مونتيه أخطاء، وإساءة إلى القرآن والنَّبيِّ عليه السَّلام لا تقل عمَّا عند بيرك»[9]، وقد بيَّن الدُّكتور إبراهيم عوض هشاشة اللُّغة الَّتي يستخدمها بيرك، وأخطاءَه الكثيرة لغويًا ونحويًا، إضافةً إلى اضطرابه -حسب تعبير عوض- في استخدام المصطلحات البلاغيَّة بشكل يؤثَّر على التَّرجمة حيث «يُسقِط بعض الألفاظ، أو يستبدل بها ألفاظًا أخرى لا تؤدِّي المعنى المراد، أو يتصرَّف في التَّرجمة تصرُّفًا مُخلَّا، أو يأتي بترجمة غير دقيقة، فعلى سبيل التَّمثيل نراه يغيِّر كلمة (بناء) في قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)[10] إلى (قبة)»[11]، وغيرها من الأخطاء الكثيرة، لا سيّما في استبدال الكلمات في ما بينها، ممَّا قاد إلى تغيير في المعنى حينًا، وفي إعطاء معنى معاكس تمامًا حينًا آخرَ، كما فعل في التَّبديل في قوله تعالى: (فتاب عليكم) في سورة البقرة، يجعل كلمة (ندم) بدلًا من كلمة (تاب)، ليصبح المعنى ندم من أجلكم، والمقصود هنا في الآية اليهود، هذا الأمر الَّذي دفعنا للبحث في الأدوات المستخدمة في التَّرجمة الاستشراقيَّة عند الفرنسيِّين.

ثانيًا- نقد الأدوات الإجرائيَّة في التَّرجمة
تتلاقى التَّرجمة الاستشراقيَّة الفرنسيَّة للقرآن في كثيرٍ من النِّقاط مع بقيَّة المدارس الاستشراقيَّة الغربيَّة، إلَّا أنَّها تختلف عن غيرها من التَّرجمات بأمور ميَّزت الفرنسيِّين عن غيرهم، أهمُّها مسألة الأدوات الإجرائيَّة المستخدمة في التَّرجمة، وسوف نذكر بعض هذه الأدوات، ومدى تأثيرها على موضوعيَّة ترجمة القرآن، ولعلَّ أوَّلها، التَّرجمة بالتَّعايش، وهي التَّرجمة الَّتي استخدمها المستشرقون الفرنسيِّون في ترجماتهم للنَّصِّ الدِّيني عبر وجود المستشرق على أرض البلاد الإسلاميَّة المُراد دراستها تاريخيًّا وجغرافيًّا، ثمَّ الوقوف على العادات، والتَّقاليد السَّائدة في هذه البلاد لدراستها بشكلٍ دقيقٍ، وعادة ما تكون هذه الدِّراسات أكثر موضوعيَّة من التَّرجمات الَّتي تلحقها، لا سيَّما في ترجمة النَّصِّ الدِّيني المقدَّس، أمَّا في ما يخصُّ التَّرجمة من التُّراث الدِّيني فيكون أقلَّ تحريفًا، وتعديلًا في أصوله، فالتَّحالف بين الاستعمار، والاستشراق في فرنسا أمرٌ معلوم منذ حمْلة نابليون بونابرت لاحتلال مصر عام 1798م، ونذكر أنَّ المستشرق (دي ساس) قد قاد عمليَّة الاستعمار الفرنسي للجزائر، وهو من قرأ البيانَ الاستعماريَّ الَّذي وُجِّه لشعب الجزائر، كما أنَّ المستشرق (لوي ماسنيون) كان مستشار الإدارة الاستعماريَّة الفرنسيَّة للشُّؤون الدِّينيَّة الإسلاميَّة[12]. إنَّ هذه الأداة في التَّرجمة تعود إلى الوجود الاستعماري الفرنسي في الكثير من البلاد الإسلاميَّة، والشَّرقيَّة، وقد وفَّر هذا الوجود عامل بحث للمستشرقين مع القدرة على جمع البيانات بشكل أكبر.

أمَّا ثاني هذه الأدوات، فهي مشاركة المسلمين في التَّرجمة الاستشراقيَّة الفرنسيَّة، وهم في الغالب ممَّن تقع بلادهم تحت نفوذ فرنسا الاستعماري، وقد أتقنوا اللُّغة الفرنسيَّة إضافة إلى لغتهم العربيَّة الأم، وهي أبرز المدارس الاستشراقيَّة الَّتي تلجأ إلى استمالة أهل العلم، وعلماء المسلمين لمساعدتها في تحقيق غاياتها، ونحن هنا لا نعني العلماء كافَّة؛ إنَّما نقصد عددًا منهم، حيث أظهرت فرنسا في سياستها الاستعماريَّة تقديسًا وهميًّا للقرآن، بهدف توظيف عقيدة القضاء، والقدر الإسلاميَّة في خدمة أغراضها الاستعماريَّة، حيث قرَّبت الشُّيوخ، والعلماء، والفقهاء، والأئمة؛ لأنَّها وجدت فيهم المرجعيَّة الحقيقيَّة للشَّعب، فترجمة العالم الباكستاني محمد حميد الله، والَّتي صدرت عام 1959م لا تتعدَّى كونها ترجمة حرفيَّة، نقل صاحبها معاني القرآن بأمانة، إلَّا أنَّ العلماء وجدوا أنَّ اللُّغة الفرنسيَّة لم ترقَ إلى مستوى النَّصِّ القرآني، ممَّا قد يجعل القارئ للنَّسخة المترجمة لا يدرك المعاني الحقيقيَّة، أو يصيبه شيء من التَّأويل الذَّاتي للنَّصِّ الأصلي، إضافة إلى ترجمة فاطمة زائد عام 1931م، والحاج نور الدِّين بن محمود عام 1970م، والصَّادق مازيغ من تونس عام 1979م، وكذلك صلاح الدِّين كشريد، وكذلك الكاتبة المصرية دريَّة شفيق، والجزائري مالك شبل، وغيرهم[13].
وتخصُّ ثالث هذه الأدوات في التَّرجمة القرآنيَّة الاستشراقيَّة الفرنسيَّة العقول المهاجرة، أو العلماء الَّذين انتقلوا للعيش على الأراضي الفرنسيَّة، وباتوا يعملون في التَّرجمة، كترجمة أبي بكر حمزة الجزائري في باريس عام 1972م، وهي من التَّرجمات الأقلِّ خطًا بين التَّرجمات العربيَّة للقرآن، حيث سلك «المنهج الوصفي، والنَّقدي، والإحصائي بتتبُّع الأضداد في كتب اللُّغة، وما ورد منها في التَّرجمة محلِّ الدِّراسة، وخلص إلى أنَّه لا مجال لنكران الأضداد في اللُّغة، وأنَّ المترجم قد تحدَّث عن بعض الأضداد ضمن تعليقاته، لكنَّه قصَّر في نقل معنى عدد منها، وخُتمت بفهرس يحوي (84) لفظًا زعم أنَّها كلُّها من الأضداد القرآنيّة»[14]، ويعدُّ حمزة من أبرز الشَّخصيَّات الَّتي ترجمت القرآن، إضافة إلى ترجمة سي محمد التِّجاني، والصَّادق كشريد، وغيرهم ممَّن ساهم في أعمال ترجمة القرآن الكريم.

ويعدُّ استعمال المنهج الفيلولوجي في التَّرجمة الاستشراقيَّة الفرنسيَّة من الأدوات الأكثر تميُّزًا في ترجمة القرآن، ويمكننا عدُّه أداة رابعة من الأدوات الإجرائيَّة الَّتي استخدمها الفرنسيُّون، صحيح أنَّهم لم يكونوا الوحيدين بين المستشرقين الَّذين استخدموا هذه المنهج، إلَّا أنَّهم قد تميَّزوا بذلك، حيث استخدموه في دراسة عادات، وتقاليد، وتراث المجتمعات المدروسة في العالم الإسلامي، وهو مطلب استعماري قبل أن يكون استشراقيًّا، أو علميًّا، وهي عادة الدُّول الاستعماريَّة، بهدف معرفة مواطن الضُّعف، وتعزيزها، وجوانب القوَّة، والحذر منها، ومن ثَمَّ إضعافها، إنَّ دراسة المجتمعات الإسلاميَّة تنطلق أساسًا من دراسة البنية الدِّينيَّة لها، والقرآن الكريم هو المرجعيَّة الرَّئيسة لتكوين هذه البنية، لهذا فقد استخدم بلاشير هذا المنهج للنَّيل من مصدريَّة القرآن الكريم حيث ذهب لعدِّه ليس سوى تجميع من مصادر يهوديَّة، ونصرانيَّة، وسريانيَّة، وآراميَّة، وغيرها، محاولًا القول بأنَّه تكرار لما سبقه من الكتب المقدَّسة، فقد بيَّن أنَّه في بعض المقاطع القرآنيَّة قد وردت كلمة قرآن بمعنى التِّلاوة، وهي مأخوذة عن اللُّغة السِّريانيَّة الَّتي يوجد فيها لفظ مشابه جدًّا، كما أنَّه استخدم المنهج الفيلولوجي ليزعم بأنَّ ترتيب النُّزول قد انتابه التَّغيير في المصحف، لذا فإنَّه قدَّم ترتيبًا مختلفًا زاعمًا الموضوعيّة وفقًا للمنهجيَّة المتَّبعة في عمله.

ادَّعى بلاشير أنَّ سورة الفاتحة تتَّخذ في العبادة دورًا مماثلًا لفاتحة (أبانا الَّذي في السَّماوات) في التَّعبُّد المسيحي، وأنَّ القرآن يتَّبع عن كثب الدِّيباجة التَّوراتيَّة عامَّة، إلَّا أنَّ اللُّغة العربيَّة تضفي على الرِّواية ميزة غريبة بسياقها المكثَّف، وباهتمامها بالإيحاء أكثر من اهتمامها بالوصف، وتحت مزاعم المنهجيَّة العلميَّة ذهب بلاشير للقول بوجود بعض السُّور القرآنيّة القصيرة هي ليست سوى أقوال في السِّحر، وبأنَّ السُّور المكيَّة حسبت ترابيتها التَّاريخيَّة في ظهور سور القرآن أفرطت باستعمال القوافي المنظومة، والمسجعة بأسلوب جعلها تنتمي إلى أسلوب العرَّافة الَّتي يقول بها الكهان[15]، وكذا الحال في ترجمة ألبير كازيمرسكي للقرآن الكريم فقد استخدم المنهج الفيلولوجي، وقد أنجز كازيمرسكي نسخته المترجمة في عام 1860م، والَّتي أعاد طبعها محمد أركون ثم جاكلين الشَّابِّي.

إنَّ الحديث عن الأدوات الإجرائيَّة يدفعنا لتناول أداة خامسة، وهي اعتماد الوسائل العلميَّة الدِّعائيَّة في التَّرجمة القرآنيَّة الفرنسيَّة، وهي مجموعة أساليب اتَّبعها المستشرقون الفرنسيِّون بهدف إيصال أفكارها الاستشراقيَّة لا سيّما في ما يخصُّ ترجمة القرآن إلى اللُّغة الفرنسيَّة، وهي تشمل جهودًا فرديَّة، وعمل مؤسَّسات وهيئات مختلفة، لعلَّ أهمَّها الكتابة الفكريَّة حول الإسلام، والتُّراث الدِّيني للمسلمين، وحياتهم وتقاليدهم، ثمَّ التَّرويج لما تمَّ كتابته بين الفرنسيِّين حيث يندرج تحت هذا الأسلوب جمع المخطوطات، والعمل على الموسوعات العلميَّة الإسلاميَّة، وإصدار المعاجم اللُّغويَّة، ونشر الصُّحف، والمجلَّات، وبالتَّالي الإحاطة الكاملة في ما يمكن أن يكون إسلاميًّا، وفي ما يمكن أن يُنشر بين الفرنسيِّين عن الدِّين الإسلامي.
إنَّ قدرة المستشرقين الفرنسيِّين على الإحاطة الفرديَّة والجماعيَّة بنشر التُّراث الإسلامي، ونجاحهم في ذلك شجعهم على إنشاء المؤسَّسات العلميَّة من مدارس، ومكتبات، وكليِّات، ومعاهد دينيَّة، وجمعيَّات، وأنشطة قرآنيَّة، ممَّا دفعهم لعقد المؤتمرات، والملتقيات، والنَّدوات، والأيَّام الدِّراسيَّة، ولقاءات التَّحاور، ثمَّ إنشاء المتاحف الشَّرقيَّة، ثم انتقلوا إلى مرحلة أخرى، وهي تسخير المبشِّرين، والأقليَّات اليَّهوديَّة، والنَّصرانيَّة الموجودة في البلدان الإسلاميَّة، والعمل على جمع أكبر عدد من البيانات، والقيام بالدِّراسات عن العالم الإسلامي عن طريق هؤلاء التَّابعين، وخلق أرضيَّة الارتباط الرِّوحي، والمعنوي بفرنسا، والعمل على تشويه الثَّقافة الإسلاميَّة، والدَّعوة إلى تطوير الإسلام كأسلوب للدسِّ فيه، وتشويه معالمه، وتوصيتهم للحكومات المتعاقبة بتجزئة البلاد الإسلاميَّة، وتدمير البنى التَّحتية لها، وإنشاء قادة تابعين، ومرتبطين بالدَّولة الفرنسيَّة، وإحياء الفكر القومي، والطَّائفي[16]، فكلُّ هذه الوسائل وإن اندرجت تحت مسمَّى العلم، والبحث العلمي إلَّا أنَّها لا تعدو أن تكون وسيلة للهيمنة الفكريَّة، والتَّحكُّم بفهم الدِّين الإسلامي وفقًا لرؤية استشراقيَّة فرنسيَّة، بمعنى أنَّ هذا التَّدرُّج في الوسائل ينتقل من الجهود الفرديَّة إلى الجماعيَّة، ثمَّ إلى الهيئات، والمؤسَّسات ليصلَ إلى قمَّة عطائِه، وقوَّته في العمل بوصفه سياسة دولة تنتهجها الدَّولة الفرنسيَّة حيال الدِّين الإسلاميِّ بشكلٍ عامٍّ، والقرآن، وترجمته، ونشر فهمه المراد بشكل خاصٍّ، الأمر الَّذي يدفعنا للحديث عن أداة سادسة من الأدواتِ الإجرائيَّة في التَّرجمة الاستشراقيَّة للقرآن، وهي أداة جامعة لبقيَّة الأدوات، أعني الدَّولة الاستعماريَّة.

كان الاستعمار غاية فرنسا في البلاد الإسلاميَّة، ولذلك فإنَّها لم تدَّخر جهدًا، ولا وسيلة في سبيل ذلك، فوظَّفت الاستشراق، وترجمة القرآن في سبيل هذا الهدف، مستخدمة كلَّ وسيلة ممكنة لأجل ذلك، فقد أعدَّت فرنسا «جيوش المبشِّرين الَّذين تملأ بهم الدَّنيا... حبُّ الاستعمار هو الَّذي يدفعها إلى ركوب هذا المركب الخشن؛ لأنَّها ترى في تعاليم الدِّين الإسلامي عقبة في سبيل الاستعمار»[17]، فقد استخدمت الدَّولة الفرنسيَّة مؤسَّساتها، وسمعتها العلميَّة في ترجمة النَّصِّ القرآني، هذا النَّصُّ الَّذي طاله التَّصرُّف الواسع، والتَّغيير في أصله، حتَّى إنَّ بعض هذه التَّرجمات كانت سيِّئة من النَّاحية اللُّغويَّة والتَّعبيريَّة، فترجمة ألبير كازيمرسكي صدرت برعاية نابليون بونابرت، وبمباركته في زمن ترافق مع حملته على مصر، كما أعيدت طباعتها، ونشرها «بعد تسع سنوات من استعمار فرنسا للجزائر لتكون بتصرُّف المستعمر، بناء لطلب غوييم بوتييه العالم اللُّغويِّ المعروف، قال هو نفسه في مقدِّمة ترجمته: إنَّ غرضنا فهم الشَّخصيَّة العربيَّة، ومصادر تزمُّت العدوِّ الَّذي علينا أن نجابهه في الجزائر»[18].

وبالتَّالي أدَّت الدَّولة الاستعماريَّة بشكل واضح دورًا عبثيًّا سلبيًّا في حركة التَّاريخ، وفي حضارة الشُّعوب الإسلاميَّة، فجرى تمرير أيديولوجيَّة تحريفيَّة تزويريَّة لتقدِّم نظرة استعلائيَّة لهذه الشُّعوب، ورعت التَّرجمات القرآنيَّة في غالبها، إن لم نقل جميعها، ممَّا مكَّنها من فرض ذاتها بنظرتها الاستشراقيَّة الَّتي ترغب بنشرها بين أبناء فرنسا، هذه الرِّعاية على مستوى الدَّولة شجَّعت المستشرقين الرَّاغبين بالعبث في تاريخ الإسلام، وحضارته ممارسة هذه السِّياسة، وفيما يلي نقف عند إحدى هذه الممارسات، وأخطرها؛ وهي التَّغيير في ترتيب السُّور، والآيات المترجمة عمَّا هي عليه في النَّصِّ الأصليِّ.

ثالثًا- تتبُّع التَّغيير في ترتيب السُّور والآيات المترجمة
إنَّ إحداث تغيير في ترتيب السُّور، أو بعض الآيات القرآنيَّة منهجيَّةً اتَّبعها بعض المستشرقين، بعد أن مهَّدوا لذلك بتقديم تبريرات مفادها أنَّ هناك تباينًا بين الخطاب الإلهي الَّذي نزل على محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبين الكلام المدوَّن في المصحف؛ ذلك لأنَّهم يتَّهمون النَّبي الكريم بتحريف الكلام الَّذي أمره الله (عزَّ وجلَّ) بتبليغه وتغييره، وبأنَّ المصحف كلام النَّبي بعد أن أعاد صياغته، وغيَّر فيه بما يتناسب مع دعوته، ومع غاياته لجذب أتباع من قومه، ومن غيرهم، ويظهر ذلك بالتَّحليل اللُّغوي، والتَّاريخي للغة المصحف، وتعاليم الدِّين الَّذي أراد محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) نشره بما فيه من تناقض – مزعوم – ومن تأثُّر بالحضارات، والثَّقافات السَّابقة لظهور هذا الدِّين الجديد، لهذا فإنَّه ادَّعى أنَّ ترتيب سور القرآن ليست على ترتيب صحيح، وبأنَّه يمكن إرجاعها إلى ترتيبها الأكثر صوابًا عبر منهجيَّة علميَّة موضوعيَّة، وبأنَّ «القرآن ليس سوى تركيب عربيٌّ لجملة من النُّصوص اليهوديَّة، والمسيحيَّة، وأنَّ ما يزيد على ثلث القرآن -قُصار السُّور تحديدًا نظرًا إلى طابعها الشِّعريِّ، وأسلوبها الغنائي الدِّيني- ليس سوى مقاطع من أناشيد كنسيَّة مسيحيَّة كان يردِّدها الكهَّان في صلواتهم، وقد ترجمت إلى العربيَّة عن اللُّغة القبطيَّة أو الإثيوبيَّة»[19]، وبالتَّالي فإنَّ المستشرقين رأوا أنَّه بإمكانهم إحداث أيِّ تغيير في القرآن، بما أنَّه لم يكن على هذا التَّرتيب ولا على هذا الأسلوب، وهذا ما جرى مع المستشرقين الفرنسيِّين.

لقد تأثَّر المستشرق بلاشير بمنهجيَّة المستشرق الألماني تيودور نولدكه، الَّذي عمد إلى إعادة ترتيب سور القرآن، زاعمًا أنَّ ذلك التَّرتيب جاء وفقًا لمنهجيَّة تاريخيَّة وفيلولوجيَّة، حيث كانت مرجعيَّته المنهج التَّاريخي في ترجمة القرآن ودراسته، هذا المنهج الَّذي يذهب إلى أنَّ تفسير النَّصِّ القرآني مرهونًا بتاريخه، وأنَّ النَّبي الكريم قد استقى أفكاره الدِّينيَّة من الحضارات والثَّقافات السَّابقة له، فهي أفكار ليست أصيلة، ولجأ بلاشير في كتابه إلى ترتيب السُّور القرآنيَّة وفق المنهجيَّة الَّتي وضعها نولدكه، حيث قسَّم السُّور المكِّيَّة إلى: سور الفترة المكِّيَّة الأولى، سور الفترة المكِّيَّة الثَّانية، سور الفترة المكِّيَّة الثَّالثة؛ والسُّور المدنيَّة، من دون أن يصدِّق الرِّوايات الإسلاميَّة، أو أن يقرَّ بترتيب نولدكه الَّذي يبين أنَّه ترتيب تاريخي منطقي، ويجعل قراءة المصحف سهلة وممتعة.
لقد دعا بلاشير إلى ضرورة البحث عن ترتيب زمني للسِّور، معدًّا أنَّ التَّرتيب الحالي للقرآن هو ترتيب مصطنع يشير إلى الرُّوح الفوضويَّة التي كان عليها العرب في ذلك الوقت، الأمر الَّذي يتطلَّب منَّا تجاوز هذا التَّرتيب، والبحث وفقًا لمنهجيَّة تاريخيَّة صحيحة، بغية فهم النَّصِّ الإسلامي المقدَّس، وبهدف مساعدة قرَّاء هذا النَّصِّ، وقد قسَّم بلاشير سور القرآن إلى أربع مراحل، فاصلًا بين كلِّ مرحلة من هذه المراحل الأربع بما تتميَّز به كلُّ مرحلة عن الأخرى من سمات[20].

وجد بلاشير أنَّ التَّنزيل القرآني مرَّ بأربعة أطوار زمنيَّة، «ثلاثة منها كانت في مكَّة خلال ثلاث عشرة سنة، والرَّابعة في المدينة، ومن ثمَّ رتَّب السُّور المتعلِّقة بكلِّ فترة في تسلسل إجمالي، وتقريبي كما يعتقد... واتَّضح على الأقلِّ أنَّ قاعدة (متوسط الطُّول) يمكن أن تنهض كفرضيَّة يمكن اعتمادها كشاخص، ومعيار لترتيب السُّور»[21]، كما يذهب بلاشير لتقسيم عدد من السُّور لعدِّة أجزاء، فيفصل جزءًا عن الآخر وفقًا لمقاييس الحدث الزَّمني، أو النَّمط اللُّغوي، والخطاب القرآني، فمثلًا يقسِّم سورة التَّوبة إلى قسمين، الأوَّل: والذي هو بمنزلة إعلان لمشركي قريش من الآية (1) إلى الآية (37)، أمَّا القسم الثَّاني: وهو بيان حول المنافقين يمتدُّ من الآية (38) إلى الآية (130)، وكذلك قسَّم سورة البقرة إلى خمس وعشرين مجموعة، وسورة النَّمل إلى سبع مجموعات حسب المفهوم، والموضوع، وسورة المائدة إحدى عشرة مجموعة، وغيرها من السُّور القرآنيّة، ومن الملاحظ أنَّ أغلب المستشرقين الفرنسيِّين يميلون للقول بالتَّرتيب الطُّولي، فتكون السُّور القصيرة ذات البنية المفعمة بالسَّجع في بدايات النُّزول، فهي أوّلًا في التَّرتيب، في حين أنَّ السُّور المتوسِّطة، والَّتي تليها بالطُّول، وجميعها سور مكِّيَّة، أمَّا المدنيَّة فهي الأطول، وذات التَّفصيل الأكثر في التَّعاليم، والتَّشريعات.
كما شكَّك جاك بيرك بصحَّة التَّرتيب الحالي لسور القرآن، إذ لا يوجد ما يشير إلى صحَّة، أو دقَّة التَّرتيب في النُّزول، فلا يوجد في السُّور «علامات على زمنها، نستطيع استخراجها عبر أسلوب التَّعبير فيها، ونوعه، وارتباطها مع الأحداث، إلَّا أنَّنا نجد أنَّ المئة والأربع عشر سورة الَّتي يحتويها القرآن، غير المتساوية في الطُّول، والمتنوِّعة بالنَّغمة... لا تبيِّن عن أيِّ تطوُّر منطقي، أو تواتر زمني»[22]، فقد رفض بيرك الاعتماد على كتب التَّفسير، والَّتي تتحدَّث عن أسباب النُّزول، وفترتها الزَّمنيَّة، مبينًا أنَّ سور القرآن ليس فيها أيُّ إشارة إلى ذلك، ممَّا يجعل ترتيبها بهذا الشَّكل عبثيًّا، وغير منطقي، وأنَّ هذا التَّباين برأي بيرك يمتدُّ إلى الشِّعر في الجزيرة العربيَّة في ما قبل الإسلام، وبأنَّه يحتوي على شيءٍ من التَّرتيب الاستعلائي.

وقد تحدَّث بيرك عمَّا يسمِّيه (البنية الحبكيَّة) للسُّورة القرآنيَّة، حيث ذهب للاستشهاد بمثال سورة النَّحل، والَّتي «تعرض -في نظره- فرديَّة مركَّبة في ذاتها، ذلك أنَّها تتكوَّن من مجموعة مقاطع مرتبة بدون ترابط ظاهري. ويلاحظ أنَّ موضوعها الرَّئيس هو الرَّحمة الإلهيَّة، والسُّلطان الإلهيُّ المطلق، وداخل هذا الإطار توجد موضوعات أخرى في الأخرويَّات، والجدليَّات، والتَّشريعات»[23]، من الواضح أنَّ نظرة بيرك لا تختلف عن نظرة بلاشير كثيرًا، فالجامع بينهما تلك المرجعيَّة الأيديولوجيَّة، والقراءة الواحدة للنَّصِّ الدِّيني بمنهجيَّة تاريخيَّة، والَّتي تزعم الموضوعيَّة والعلميَّة، في حين أنَّ حقيقة الأمر لا يتعدَّى كونها نظريَّة، أو موقفًا سياسيًّا خالصًا، وقد تحدَّث عن ذلك الباحث رمضان حينوني بشكلٍ موجزٍ في مقدِّمة كتابه عن الخلفيَّة السِّياسيَّة الَّتي تحرِّك المستشرقين، لا سيَّما الفرنسيِّين منهم، والَّذين ليسوا سوى موظَّفين لدى حكومة بلادهم، يعملون كما تملي عليهم المؤسَّسة السِّياسيَّة الَّتي ارتبطت أهدافها مع المؤسَّسة الدِّينيَّة، وهذا ما قد فعلته فرنسا منذ حملات الحروب الصَّليبيَّة على العالم الإسلاميِّ.

في حين أنَّ المستشرق ماكسيم رودنسون ذهب لترجمة معاني القرآن، ورفض ترتيبها، وألغى صدق الأحاديث المنقولة عن النَّبيِّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد فسَّر الآيات الواردة في القرآن وفقًا لرؤيته، فذهب إلى أنَّ «لفظة القلم الواردة في القرآن، هي ذاتها الكلمة الإغريقيَّة (كالاموس)، وهو المصطلح ذاته الَّذي استخدمه الرُّسل قبل محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابة الوحي، وما كان ينزل عليهم من أعلى، فالكلمة قد أخذها النَّبيُّ من الحضارات السَّابقة، وما دينه إلَّا جزء من الأديان السَّابقة له[24]، كما عدَّل على الكثير من تفسيرات الآيات القرآنيَّة ممَّا تسبَّب في تغيير معناها بشكل مناقض لما هي عليه في المصحف، وكذا الحال عند بقيَّة المستشرقين الفرنسيِّين ممَّن تلاعب، أو لم يقبل بترتيب سور القرآن، أو معناها، هذا الأمر يدفعنا للحديث عن الأدلجة الَّتي يعرضها لنا القرآن من قِبَل المستشرقين، وهو محور حديثنا الآتي.

رابعًا- مناقشة الجانب الأيديولوجي في ترجمة المعاني القرآنيَّة
تحمل ترجمة النَّصِّ القرآني حساسيَّة خاصَّة؛ لأنَّ التَّرجمة هنا لا تتمُّ لنصٍّ عاديٍّ ألَّفه كاتب، أو شخص ما؛ إنَّما هو الكتاب المقدَّس لعموم المسلمين، وله خصوصيَّته المميَّزة، لأنَّه كلام مُنزَل من الله (عزَّ وجلَّ) على رسوله الكريم، كما أنَّ للقرآن بلاغة تحدَّى الله بها العرب أهل البلاغة، وهو مُنزَل بلغتهم العربيَّة، واللُّغة العربيَّة لغة واسعة بمفرداتها، وغنيَّة بتراكيبها ومعناها، ممَّا جعل أمر ترجمته غاية في الصُّعوبة، وبذلك يمكن أن تتحوَّل التَّرجمة إلى غايات أيديولوجيَّة، وهو أمر خطير على النَّصِّ الأصلي من جهة، وعلى النَّاطقين باللُّغة المترجم إليها من جهة ثانية، فهذه التَّرجمة كفيلة بإيصال الفكرة، أو الصُّورة الَّتي يرغب بإيصالها المترجم لناطقي لغته، وتَرْك أثره الفكريِّ في أهل ثقافته بصورة كبيرة، لأنَّهم غير قادرين على التَّعرُّف إلى هذا الكتاب المقدَّس إلا عبر وسيلة ترجمة هذا النَّص ِّمن خلال أشخاص قادرين على ذلك، أو من خلال مؤسَّسات، وهيئات تتبنَّى هذه الخطوات، وفي فرنسا كان المستشرقون هم من قاموا بهذه المهمَّة مع مساعدة الدَّولة بمؤسساتها، ومراكزها التَّعليميَّةِ، والبحثيَّة. لقد كانت غايات فرنسا الاستعماريَّة، وتشويه فكر الآخر المختلف عنها ثقافيًّا ودينيًّا هي الدَّوافع الَّتي تحكَّمت بعمليَّة التَّرجمة بشكلٍ واضحٍ، فبلاشير الَّذي غيَّر ترتيب سور القرآن، وآياته كانت تحكمه دوافع أيديولوجيَّة محكومة بعمل سياسي تحركه مؤسسات على أعلى المستويات، فالتَّرجمة كانت بوابة رئيسة للاستشراق الفرنسي لتمرير مضامين فكره الأيديولوجي.

فالاستشراق الفرنسي اعتمد على ترجمة النَّصِّ القرآني لتحريف دلالات نصيَّة مقدَّسة، وإعطاء الألفاظ الإسلاميَّة صبغة مسيحيَّة، أو يهوديَّة، أو حتَّى غيرها من الأديان الوضعيَّة، لتركِّز الترجمة على تمرير معتقدات أيديولوجيَّة، أبرزها: أوّلًا، إظهار التَّعامل مع النَّصِّ القرآني على أنَّه مثله مثل أيِّ نصٍّ آخر يمكن ترجمته دون أيِّ اعتبار لقدسيَّته، أو إعجازه، ثانيًا، إنَّ مثل هذه التَّرجمات تؤكِّد مساعي الكثير من المستشرقين إلى تشويه القرآن، وتحريفه بهدف محاربة الإسلام والمسلمين، وبهدف الهيمنة الاستعماريَّة على العالم الإسلامي، فكانت التَّرجمة خير وسيلة لذلك، ثالثًا، إنَّه من الصَّعب فصل الأيديولوجيا عن التَّرجمة كونها تفرض نفسها على شتَّى أنواع التَّواصل، وكثيرًا ما تتسرَّب إلى النَّصِّ المترجَم في غفلة من المترجِم نفسِه المتشبِّع بأفكار مجتمعه ومعتقداته، كما أنَّ التَّرجمة الدِّينيَّة كباقي الإنتاجات الفكريَّة ليست بريئة البتَّة، وإن كان يجب ألَّا يصل تأثير الولاء لأيديولوجيا معيَّنة بالمترجم إلى الخروج عن قواعد التَّرجمة المتَّفق عليها بتحريف معنى النَّصِّ الأصليِّ وتشويهه، لا سيَّما في مجال حسَّاس كالدِّين، ونص معجز، ومقدَّس كالقرآن الكريم[25].
إنَّ ترجمة جاك بيرك للقرآن الكريم تبدأ بطابع أيديولوجي منذ اللَّحظة الأولى لبدء التَّرجمة، حيث ذهب لترجمة معنى كلمة القرآن بالتَّفريق الحاسم، وليس بمعناه الحقيقي، أي الفارق بين الحقِّ والباطل، وتحريفه لترجمة أسماء السُّور القرآنية خلال التَّرجمة كالزُّمر، والذَّاريات، والنَّازعات، وعبَس، والعاديات، وغيرها من السُّور، إضافة إلى التَّحريفات في المعاني لدرجة إعطاء المعنى المناقض للمعنى الحقيقي المذكور في النَّص القرآني، وإنَّ «المتتبِّع لترجمة جاك بيرك مقارنة بالنَّصِّ القرآني سرعان ما يلاحظ إغفال المترجم لنقل أجزاء من الآيات القرآنيَّة إلى اللُّغة الفرنسيَّة، ما يترتَّب عن ذلك تحريف للمعاني، والدَّلالات الَّتي تدل عليها الآيات القرآنيَّة الكريمة في تناسقها، وترابطها، وهذا ما جاء في الآية (110) من سورة المائدة، إذ أهمل ترجمة ثلاث كلمات (فتكون طيرًا بإذني)، واكتفى المترجم بترجمة (وإذ تخلق من الطِّين كهيئة الطَّير بإذني فتنفخ فيها)، ويفهم من هذه التَّرجمة أنَّ عيسى(عليه السلام) كان يخلق من الطِّين كهيئة الطَّير بإذن الله فقط، ولم يستوِ ذاك الخلق طائرًا بإذن الله، وهذه خيانة للنَّصِّ الأصلي»[26]، فهذه الممارسة الأيديولوجيَّة اتَّبعها بيرك، وغيره الكثير من المستشرقين، بعضهم كان أكثر حذرًا من غيره في عمليَّته التَّحريفيَّة لدرجة أنَّ كشف حقيقته الأيديولوجيَّة أمر غير متاح لكلِّ واحد، بل يحتاج لمختص في العلوم الدِّينيَّة، وربَّما إلى مختصٍّ في القرآن وتفسيره، وقد يصعب الأمر؛ لأنَّه يتطلَّب معرفة، ودراية باللُّغة الَّتي تمَّت عمليَّة التَّرجمة إليها، وإلَّا فإنَّ الباحث، أو المتعقِّب لأثر المستشرق، ومدى موضوعيَّته سيكون عمله ضربًا من الاستحالة.

إنَّ التَّلاعب الأيديولوجي الَّذي مارسه المستشرقون الفرنسيِّون كان على نواحي التَّرجمة القرآنيَّة كافَّة من دون أن يقتصر الأمر على جانب منها، وقد ظهرت خطورة التَّرجمة الأيديولوجيَّة في جرأة بيرك بالتَّعديل في الألفاظ، والتَّراكيب القرآنيَّة، ونذكر بعض الأمثلة فقط عن ذلك، حيث ذهب لترجمة كلمة (الرُّوح) بعادة النَّفس، أو الفكر، وهي ترجمة حرفية جامدة تفقدها معناها الحقيقي الَّذي يأتي في أحايين كثيرة بمعنى الوحي الإلهي، كما هو الحال في سورة الشُّورى في الآية (52) حين يقول تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، وكما هو الحال في سورة النَّحل في الآية (2) حين يقول تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)، وغيرها من الآيات، إنَّ هذا التَّغيير يسبِّب جمودًا في المعنى، وتحريفًا كبيرًا يصل لحدِّ التَّناقض التَّام، وفي ترجمته يقدِّم بيرك الكثير من المعاني بشكلٍ حرفي جامد، ممَّا تسبَّب بتغيير في المعنى، وتحريف في الغاية، كما هو الحال أيضًا في ترجمته لمعنى كلمة (مسٌّ) من سورة الواقعة في الآية (79) قوله تعالى: (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)، حيث ترجمها بمعنى اللَّمس، وهي في سياقها لا تعني مطلقًا اللَّمس؛ إنَّما تعني الإدراك والفهم لكلمات الله.

كما ترجم بيرك معنى كلمة (الذِكْر)، والَّتي جاءت بمعنى الموعظة، والاعتبار كما في سورة يس الآية (69) حين يقول تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ)، وفي غيرها من السُّور بنفس المعنى، إلَّا أنَّ التَّرجمة جاءت بمعنى الذِّكرى، وكذا الحال حين ترجم كلمة (المحصنات) بمعنى المرأة المتزوِّجة (المتزوِّجات)، وهذه التَّرجمة الحرفيَّة تسبِّب خلطًا، وتحريفًا في المعنى المراد[27]، وغيرها الكثير من المعاني، والتَّراكيب الَّتي استخدمت في التَّرجمة لتكون أداة لتعبر عليها أفكار استشراقيَّة، ذلك أنَّ بيرك قد وضع نفسه بخدمة الدَّولة الفرنسيَّة، وعمل بالاستشراق، والتَّرجمة القرآنيّة بوصفه أستاذًا جامعيًّا للتَّاريخ الاجتماعي للعالم الإسلامي.
وكذا الحال في ترجمات المستشرق محمد حميد الله، وبلاشير اللَّذين ذهبا لترجمات حرفية شوَّهت المعنى الحقيقي للنَّصِّ القرآني، وأحدثت التباسًا عند القارئ الفرنسي، فمثلًا يترجم كلٌّ منهما معنى الآية القرآنية في قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)[28]، حيث قامت ترجمتهما على نقل «التَّعبير، والكناية العربية كما هي، وهذا ما أدَّى إلى فساد المعنى في اللُّغة المنقول إليها، فقد أخطأ من ترجمها ترجمة حرفيَّة تحيد عن المعنى»[29]، وكذا الحال في ترجمة بلاشير، وحميد الله لمعنى الآية القرآنية في قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلًا)[30]، وهو تعبير مجازي لحالة الحسرة، أو النَّدم لعدم اتِّباع الرِّسالة الإسلاميَّة، لهذا كان لا بدَّ من التَّصوير الدَّقيق، وإيضاح المعنى الحقيقي المراد من قول الله (عزَّ وجلَّ)، أمَّا ما حدث فقد كان العكس تمامًا حيث ذهب كلٌّ من حميد الله، وبلاشير لترجمة معنى الآية، أو معنى عضِّ اليدين بحرفيته على أنَّه عضُّ الأنامل؛ وإنَّ حقيقة الأمر «عبارة عضَّ على يديه، عربية أصيلة وهي كناية تختلف عن كناية العضِّ على الأنامل في شدَّة التَّعبير عن النَّدم، حيث لا تكفي الأنامل، وحتى اليد الواحدة للتَّعبير عن شدَّة الغيظ، بل يلزم الكافر يدين اثنتين للتَّعبير عن الحسرة، والنَّدامة»[31]، كما أنَّ بلاشير ترجم كلمة (رسول) بمعنى حواري كحواريي عيسى(عليه السلام)، وبالتَّالي رفض معنى الدِّين الجديد، أو الرسالة الإلهيَّة الجديدة، كما قام المستشرقون الفرنسيِّون بترجمة الكنايات الَّتي استخدمها القرآن بشكلها الحرفي، ممَّا تسبَّب بتغيير كامل للمعنى، وللهدف الَّذي ذُكرت من أجله، كما أنَّ كنايات الوقار، أو التَّواضع واللِّين الَّتي يذكرها النَّصُّ القرآني تعرَّضت لتغيير كبير في المعنى، وتضمَّنت معانٍ أيديولوجيَّة استشراقيَّة، وغيرها من التَّرجمات الَّتي أعطت النَّصَّ الدِّيني طابعًا بشريًّا، ونزعت عنه الصِّفة الرَّبانيَّة، أو الألوهيَّة، وهو محور حديثنا القادم.

خامسًا- دحض القول ببشريَّة النَّصِّ القرآني
نسعى في نهاية الدِّراسة إلى اختصار نقدنا في الحديث عن بشريَّة النَّصِّ القرآني؛ لأنَّه حديث طويل، لنكتفي بالتَّركيز على جانب واحد مفاده أنَّ غالبيَّة التَّرجمات الاستشراقيَّة الفرنسيَّة حاولت تصدير صورة للقارئ الفرنسي على أنَّ النَّص القرآني ما هو إلَّا كلام بشري، وليس منزلًا من عند الله تعالى، وقد عبث به المسلمون الأوائل وأحدثوا فيه تغييرات كثيرة، وبأنَّه نصٌّ متأثِّر بعدد كبير من الأديان والحضارات السَّابقة عليه.

أحدثت التَّرجمة الفرنسية للقرآن الكريم فارقًا حقيقيًّا بين النَّصِّ الأصلي المُنزَل، وبين النَّصِّ الجديد المترجَم لما فيه من اختلافات في المعنى، وتباينات أوجدها المترجمون بشكلٍ متعمَّد في الغالب رغبةً منهم بصنع هذا الفارق، واستحداث نصٍّ جديد يمكِّنهم من نشر أفكارهم عبر ترجمة النَّصِّ الأصلي، وتحميله ما ينبغي من أجل أن يكون نصًّا مطواعًا يخدم الغايات الَّتي تحرِّك عمليَّة التَّرجمة في أغلب الأحيان، فقد سعى معظم المستشرقين الفرنسيِّين إلى تصدير صورة مختلفة للنَّصِّ القرآني، وإيصال رسالة لشعوبهم تفيد بأنَّ النَّصَّ القرآني المعتمد بالمصحف عند المسلمين، هو نصٌّ قد انتابه الكثير من التَّعديل والتحريف، وهو في أصله نصٌّ توراتي، أو إنجيلي قد عدَّله رسول الإسلام حتَّى يتناسب مع قومه، ومع رسالته، «فهدف بلاشير وأمثاله من ترجماتهم لمعاني القرآن الكريم إيهام القرَّاء بتناقضاته، وإضفاء صفة النَّحل، والحبكة، والتَّأليف البشري عليه، وذلك بما يبثون في مقدِّماتهم، وحواشيهم من أكاذيب وافتراءات، لاعتقادهم الجازم أنَّ ذلك يصيب الإسلام في الصَّميم»[32]، إذ إنَّ غالبية المستشرقين الفرنسيِّين يحاولون دائمًا تأكيد التَّشابه بين القرآن، وبين غيره من الكتب السَّماوية للقول بأنَّه لم يأتِ بجديد؛ إنَّما قد أعاد الدَّعوات الدِّينيَّة السَّابقة، وليس هناك من مبرِّر لوجوده، أو لقيام هذه الدَّعوة، وبأنَّ التَّشابه مع الكتب المقدسة ليس تشابهًا نزيهًا، ذلك أنَّ الرَّسول العربي قام بنقل التَّعاليم السَّابقة، ومنحها طابعًا جديدًا بلغة جديدة، وبأنَّ عمليَّة التَّرجمة هي الأقدر على كشف تلك الحقيقة الَّتي تثبت عدم جدوى هذه الدَّعوة الجديدة، وتكرارها لما سبقها من دعوات دينيَّة، وبالتَّالي فإنَّ هذه الدَّعوة ليست سوى تأليف قام به محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبأنَّ القرآن ما هو إلَّا كتاب وضعه محمد بن عبد الله.
سلك المستشرقون الفرنسيِّون طرق عدَّة للوصول الى مقولة أنَّ القرآن ليس كتابًا مقدّسًا؛ إنَّما هو تأليف محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وتجميع قام به المسلمون ممَّن عاصروا دعوته، حتى إنَّ هذا الكتاب لم يعرف التَّدوين إلَّا في وقت متأخِّر نسبيًّا من بدء الدَّعوة، واقتصر على التَّناقل الشَّفهي بين أتباعه، وكثيرًا ما نجد المستشرقين يتعرَّضون للغة القرآن بالنَّقد، ذلك «في إطار السَّعي الحثيث، والدَّؤوب نحو صرف القرآن الكريم عن مصدره الإلهي، حاول بعض المستشرقين الفرنسيِّين عند تعرضهم للغة القرآن، أن يصوِّرها بصورة الأدب العادي، واجتهدوا في التَّنقيب عن مواطن التَّشابه، والمماثلة بين لغة القرآن، ولغة البشر، ورأوا أنَّ لغة القرآن تشبه إلى حدٍّ بعيد لغة الشِّعر العربي القديم في إيقاعه، ووزنه، وقافيته، يقول المستشرق الفرنسي إدوارد مونتيه: إنَّ أسلوب القرآن أسلوب شعري مقفَّى، غير أنَّ هذا الأسلوب الشِّعري ينحصر في السُّور المكيَّة، خصوصًا القديمة جدًّا منها، دون السُّور المدنيَّة»[33]، وهي منهجيَّة اتَّبعها مترجمو القرآن، وقد أظهروا لمن يقرأ القرآن باللُّغة الفرنسيَّة بأنَّهم يسلكون منهجيَّة موضوعيَّة في التَّبين من صحَّة ما يزعمون، في حين أنَّ المنهجيَّة المضمرة الَّتي يضمرها كلٌّ منهم هي نزع سمَة القداسة عن النَّصِّ القرآني المترجم، ويكون ذلك عبر خطوات تختلف، وقد تطول من مستشرق لآخر من التَّغيير في المعاني، والتَّراكيب المترجمة إلى التَّغيير في ترتيب السُّور القرآنيَّة، إلى التَّعديل في السُّور ذاتها ضمن آياتها إلى تقديم تفسيرات تشير إلى أنَّ القرآن كلام بشر، أو تأليف شخصي، أو أنَّه قد طالته مجموعة كبيرة من التَّعديلات البشريَّة، وإلى التَّباين بين النَّصِّ الخطابي المنزل، وبين النَّصِّ المدوَّن في المصحف، وغيرها الكثير من المزاعم الَّتي لا يتوقَّف معظم المستشرقين عن ترديدها.

يذهب المستشرق هنري ماسيه للقول بأنَّ هذا النَّسق الإنشائي لا يخلو من مشابهة مع السَّجع؛ ذلك النَّوع من النَّثر حيث الكلمات بمجموعها تعود في مسافات منتظمة، وهو شكل من أشكال البيان سبق الشَّعر المنتظم، وبأنَّها متشابهة في الظَّاهر فقط، لأنَّ السَّجع الحقيقي يتطلَّب وضوحًا، وموقعًا متناسقًا لا نجده في القرآن، وبأنَّ السَّجع الَّذي عاد للظُّهور في الأدب العربي، هو الشَّكل الأصلي للغة الكهَّان الوثنيِّين، وبهذا فإنَّ كلام القرآن كلام كهَّان، وليس كلامًا إلهيًّا مقدَّسًا، بل إنَّ لغته أدنى من السَّجع القوي، لذا فإنَّ خصوم محمَّد -حسب زعم ماسيه- كانوا محقِّين عندما عدُّوه شاعرًا وكاهنًا، فالشِّعر في الوثنية إلهامه من الشَّيطان، كما أنَّ المستشرق هنري لامينز يذهب ليؤيِّد كلام ماسيه، إلَّا أنَّه يرى أنَّ القوافي الَّتي كانت تُستعمل عند الكهَّان الوثنيين العرب، تستعمل بحريَّة، وتسامح في البحور العروضيَّة أكثر ممَّا هو عليه كتاب محمَّد[34]، وغيرها الكثير من السُّلوكيَّات الَّتي تحاول نزع طابع القداسة عن النَّصِّ القرآني المقدَّس، فيحدث التَّباين بين الدَّعوة الإسلاميَّة، وبين مضامينها، ونصِّها المترجم للُّغة الفرنسيَّة، ومن جهة أخرى يغدو النَّصُّ الإلهي نصًّا أقلَّ من عادي؛ لأنَّه متباين بين الدَّعوات، والتَّصورات الَّتي ستصل لغير العرب، وبين ما بين أيديهم من نصٍّ لغوي مفكَّك، وكلام غير مفهوم، ولغة ركيكة لا تعبِّر عن أيِّ معنى تشعر للوهلة الأولى بعدم جدوى البحث فيها، في ظلِّ تناقضها وتكرارها، هكذا بدا النَّصُّ القرآني المترجم بين يدي ناطقي اللُّغة الفرنسيَّة بفضل المستشرقين المترجمين.

إنَّ التَّشابه بين الأديان السَّماويَّة أمرٌ طبيعي؛ لأن مصدرها واحد هو الله
(عزَّ وجلَّ) وما الاختلافات بينها إلَّا نتاج سوء الفهم، أو تغيير، وتحريف لما طالها عبر الزَّمن، قال الله تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[35]، لذا فإنَّ القول بتشابه القرآن، وتأثُّره بغيره من الأديان السَّابقة ليس دليل نقص، أو ضعف؛ بل دليل تكامل، ولا ينقص من قداسته، فهذا التَّكامل تمثَّل آنذاك بخلق هويَّة دينيَّة في الجزيرة العربيَّة، مع إمكانيَّة التَّوسُّع خارجها عبر هذه الهويَّة ذات التَّوجُّه العالمي، والمتجاوزة للانتماء القبلي السَّائد حينها.
وإنَّ مرحلة تدوين القرآن تمثِّل مرحلة تفاعل جدلي، حيث شهدت الفترة الزَّمنيَّة لبدء دعوة محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) مرحلة تنقيح، وتأويل للأديان السَّابقة، ولكتبها المقدَّسة، وبما أنَّ القرآن مرحلة بلاغٍ شفهي قد احتوى على تناصٍ خارجي؛ فإنَّ هذا التَّناصَّ يمثِّل جزءًا من محور الخطابات الَّتي كانت سائدةً آنذاك، لأنَّ الاكتفاء بالنَّصِّ المدوَّن هو الاقتصار على جزءٍ من الحقيقة.
إنَّ الإعجاز القرآني دليل يدحض بشريَّته، ويثبت إلهيَّته، فالبلاغة، والفصاحة، والمعاني الدَّلاليَّة في القرآن لا يستطيع بشر تقديمها بالشَّكل الَّذي تنزلت به، وقد فشل الكثير ممَّن حاول تأليف كتاب مثله، وعجزوا عن تحدِّي القرآن بسورة، أو آية من مثله، ولو أنَّ القرآن محرَّف لما قاومت لغته عبر هذه القرون الطَّويلة، وما فيها من تناسب زماني ومكاني.

كما أنَّ هناك دليل عقلي-تأريخي على عدم تحريف النَّصِّ القرآني يلخص بعدم اعتراض المسلمين الأوائل على مصحف الأوَّل، لا سيَّما وأنَّ الإمام علي(عليه السلام) قام بحملة في فترة حكمه ضدَّ كلِّ مخالفة، أو بدعة في الدِّين، وكلُّ ذلك أقلُّ خطورة من مسألة تحريف القرآن الَّتي لا يمكن أن يسكت عنها أيُّ مسلم لو حدث ذلك فعلًا.

الخاتمة والنَّتائج
بعد نهاية دراستنا النَّقديَّة حول ترجمة القرآن في الاستشراق الفرنسي، يمكننا إجمال نتائج البحث، وخلاصته بمجموعة من النَّتائج، نذكر أبرزها:

- إنَّ التَّرجمة الاستشراقيَّة الفرنسيَّة للقرآن الكريم كانت تعبِّر عن مجهود جماعي، وإن لم يظهر في الواجهة غير المستشرقين بمجهودهم الفردي في أغلب الأحيان، إلَّا أنَّها في الحقيقة نتاج مؤسَّسات، وهيئات سياسيَّة ودينيَّة، ممَّا يفسِّر القوَّة الَّتي يمتاز بها هذا الاستشراق، وقدرته على نشر أفكاره عبر نشاطات البحث العلمي الَّتي ترعاها الدَّولة، الأمر الَّذي يطبعها بالطَّابع العدواني الاستعماري القائم بين فرنسا، وبين العالم الإسلامي، والعربي.
- القدرة الكبيرة الَّتي امتاز بها الاستشراق الفرنسي في دراسة المجتمعات الإسلاميَّة، والمعرفة الدَّقيقة لأبرز التَّفاصيل في حياة المجتمعات، وقد توَّجها بالقدرة على ترجمة القرآن الكريم بعدد كبير من النُّسخ، والتَّرجمات المختلفة الَّتي قام بها مستشرقون فرنسيِّون مختلفون.

- الطَّابع السِّياسي كان مسيطرًا على التَّرجمات الاستشراقيَّة الفرنسيَّة، حيث تمَّ تقديم الأهميَّة السِّياسيَّة على الأهميَّة العلميَّة، كما أنَّها احتوت على تأييد للنَّظريَّة المركزيَّة الأوروبيَّة، وبُعدها السِّياسي والحضاري، وبالتَّالي فإنَّ الاستشراق الفرنسي عبَّر عن نمط من العقليَّة الأوروبيَّة الَّتي تنظر ولو بحال من اللَّاوعي إلى غيرها من الشُّعوب نظرة مختلفة، لا ترقى لمستوى المساواة، وهو السَّبب الَّذي يبرِّر تسخير فرنسا الدَّولة بكلِّ قوَّتها، وثقلها لخدمة الاستشراق.
- تميَّزت المدرسة الاستشراقيَّة الفرنسيَّة بترجماتها عن بقيَّة المدراس باستخدام وسائل إجرائيَّة متنوِّعة، حيث تميَّز الفرنسيِّون بأنَّهم متعايشون مع الشُّعوب بفضل وجود أغلبهم على أراضي الشُّعوب الإسلاميَّة المدروسة كعيِّنة، ثمَّ إنَّ عددًا كبيرًا من المسلمين، وعلمائهم لم يكونوا عيِّنة مدروسة فحسب، بل تحوَّل بعضهم إلى مساعدين للمستشرقين بفضل إتقانهم اللُّغتين الفرنسيَّة، والعربيَّة، ثمَّ وجد مستشرقون فرنسيِّون من أصول عربيَّة، أو إسلاميَّة لغتهم الأم العربيَّة، إضافة إلى اعتماد المستشرقين الفرنسيِّين على المنهج الفيلولوجي في دراسة بنية المجتمعات، لذا فقد كانت ترجمة القرآن في الاستشراق الفرنسي أكثر توسُّعًا، وأثرًا في الواقع، وتناولت جوانب حياة المجتمعات الإسلاميَّة كافَّة، وهذا الأمر يظهر في الواقع على شكل مؤسَّسات بحثيَّة، ودراسات، ومعاهد، وكلِّيَّات جامعيَّة، ومتاحف، ونشاطات تعكس المستوى الَّذي وصلت إليه فرنسا بفضل دعمها لميدان الدِّراسات الاستشراقيَّة، وعلى رأسها التَّرجمة القرآنيَّة.
- أحدث عدد كبير من المستشرقين الفرنسيِّين تغييرًا، وتعديلًا على النصّ القرآني في أثناء ترجمته بحجة استخدام منهجيّة فيلولوجيّة تبيِّن أنَّ الترتيب الحالي لسور القرآن، وآياته لم يكن صحيحًا، ويجب تصويبه حتَّى يكون أقرب لقارئه الجديد، وقد قاموا بتقسيم عدد من السُّور إلى عدَّة أجزاء، وترتيب آياتها من جديد، وذلك وفقًا لمقاييس الحدث الزَّمني، أو النَّمط اللُّغوي، والخطاب القرآني، أو ترتيبها حسب موضوعاتها كما فعل جاك بيرك.
- تعود القدرة الكبيرة للمستشرقين للدَّولة الفرنسيَّة الَّتي شكَّلت داعمًا رئيسًا لكلِّ عمل استشراقي، حيث زاوجت بين الاستشراق بوصفه فكرًا، وعملًا علميًّا، وبين الاستعمار، فكان الاستشراق أداة، وخدمة لاستمرار استعمار الشُّعوب، لهذا كانت ترجمة القرآن وسيلة لإحكام الهيمنة الفكريَّة، والأيديولوجيَّة على الآخر المختلف، وذلك يظهر عبر التَّحريف، والتَّشويه المتعمَّد لمعاني، وتراكيب النَّصِّ القرآني ودلالاته.

- إنَّ الغاية النِّهائيَّة للتَّرجمات الاستشراقيَّة الفرنسيَّة، هي تصدير صورة للقارئ الفرنسي تؤكِّد أنَّ النَّصَّ القرآني ما هو إلَّا كلام بشري، وليس منزلًا؛ إنَّما عبث به المسلمون الأوائل، وأحدثوا فيه تغييرات كثيرة، وبأنَّه نصٌّ متأثر بعدد كبير من الأديان، والحضارات السَّابقة له، وبالتَّالي ليس كتابًا إلهيًّا مقدّسًا.

لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم
إبراهيم عوض، ترجمة جاك بيرك للقرآن الكريم بين المادحين والقادحين، منشورات مكتبة زهراء الشَّرق، القاهرة، ط1، 2000م.
أحمد نصري، آراء المستشرقين الفرنسيِّين في القرآن الكريم «دراسة نقديَّة»، دار القلم للطِّباعة والنَّشر، الرباط، ط1، 2009م.
أنس الصنهاجي، القرآن في الدِّراسات الاستشراقيَّة الفرنسيَّة، منشورات مجلَّة دراسات استشراقيَّة، الصَّادرة عن المركز الإسلامي للدِّراسات الاستراتيجيَّة، والعتبة العبَّاسية المقدَّسة، السَّنة الثالثة، العدد 8، صيف 2016م.
إيمان بن محمَّد، البعد الأيديولوجي في ترجمة معاني القرآن عند المستشرقين «ترجمات ريجيس بلاشير وجاك بيرك ومحمَّد حميد الله الفرنسية أنموذجًا»، مجلَّة معالم، الجزائر، العدد العاشر، 2018م.
بسَّام بركة، وحسام سباط، ترجمات معاني القرآن الكريم (أعمال المؤتمر الدُّولي الأوَّل الَّذي عقد في لبنان عام 2015)، دار الكتب العلميَّة، القاهرة، 28-29 كانون الأول/ ديسمبر، 2015م.
حفناوي بعلي، التَّرجمة النَّقديَّة التَّأويلية الكتب المقدَّسة، منشورات دار اليازوردي العلميَّة للنَّشر، عمان، ط1، 2018م.
رمضان حينوني، المستشرقون وبنية النَّص القرآني، دار اليازوردي العلميَّة للنَّشر والتَّوزيع، عمان، ط1، 2021م.
الشَّيخ طنطاوي جوهري المصري، الجواهر في تفسير القرآن الكريم، الجزء العشرون، ضبطه وصحَّحه: محمَّد عبد السَّلام شاهين، دار الكتب العلميَّة، القاهرة، 2016م.
صلاح الدِّين بن دريميع، ترجمة الكناية القرآنيَّة إلى اللُّغة الفرنسيَّة: دراسة في ترجمات ريجيس بلاشير ومحمَّد حميد الله وجاك بيرك، مجلَّة الآداب والعلوم الاجتماعيَّة، الجزائر، المجلد السَّابع عشر، العدد الأول، 2020م.
عبد الله بن عبد الرَّحمن الوهيبي، الاستشراق الجديد مقدِّمات أوَّليَّة، شركة آفاق المعرفة للنَّشر والتَّوزيع، الرياض، ط3، 2021م.
عبد الجبَّار توامة، نقد ترجمة القرآن إلى الفرنسيَّة في ضوء المنهج السِّياقي» ترجمة جاك بيرك نموذجًا»، مجلَّة المترجم، الأغواط (الجزائر)، المجلَّد الثَّامن، العدد الثَّاني، ديسمبر 2008م.
عبد الرَّحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، منشورات المؤسَّسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر، بيروت، ط4، 2003م.
علي الصَّادق حسنين، بحوث النَّدوة العالميَّة حول ترجمات معاني القرآن الكريم، منشورات جمعيَّة الدَّعوة الإسلاميَّة، طرابلس، ط1، 1986م.
عبد الغني عيسى أويار خوا، أثر اَلأضداد الظَّرفيَّة في تفسير القرآن الكريم وترجمة معانيه، مجلَّة الدِّراسات اللُّغوية المجلَّد 24، العدد الثَّالث، فبراير – أبريل ، مركز الملك فيصل للبحوث والدِّراسات الإسلاميَّة، الرِّياض، 2022م.
عمر الإسكندري، وسليم حسن، تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر، منشورات مؤسَّسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014م.
لخضر شايب، نبوَّة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الاستشراقي المعاصر، منشورات مكتبة العبيكان، الرِّياض، ط1، 2002م.
محمد عبدالله الشَّرقاوي، الاستشراق وتشكيل نظرة الغرب للإسلام، منشورات دار البشير للنَّشر والتَّوزيع، القاهرة، ط2، 2015م.
محمد صالح البنداق، المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1983م.
المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير ودراسة القرآن، موقع وكالة الأنباء القرآنيَّة الدُّوليَّة، 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2017م.
مهدي بازر كان، القرآن في مسار تطوره: في تحليل البنية اللَّفظيَّة والموضوعيَّة، ترجمة: كمال السَّيد، شركت سهامي انتشار، طهران، ومركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2015م.
نبيل صابري، كتاب «القرآن» للمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير «عرض وتقويم»، منشورات مركز تفسير للدِّراسات القرآنيَّة، الرِّياض، 2021م.
نعيمية بوزيدي، الاستشراق الفرنسي وترجمته للقرآن الكريم، مجلَّة دراسات لسانيَّة، البليدة، الجزائر، المجلد4، العدد2، 2020م.
نهاري الشِّريف، ترجمة معاني القرآن الكريم بين المكن والمستحيل «ترجمة جاك بيرك وريجيس بلاشير أنموذجًا»، مجلة فصل الخطاب، جامعة ابن خلدون، تيَّارات (الجزائر)، 2014م.
https://2u.pw/ZBYLQ


------------------------------------
[1](*)- مدرس الفلسفة في جامعة ماردين أرتقلو الحكومية في تركيا.
[2]- انظر: علي الصادق حسنين، بحوث الندوة العالمية حول ترجمات معاني القرآن الكريم، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ط1، 1986م، ص171 وما بعدها.
[3]- محمد صالح البنداق، المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1983م، ص90.
[4]- انظر: عمر الإسكندري، وسليم حسن، تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر، منشورات مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2014م، ص106.
[5]- أنس الصنهاجي، القرآن في الدِّراسات الاستشراقيَّة الفرنسيَّة، منشورات مجلَّة دراسات استشراقيَّة، الصَّادرة عن المركز الإسلامي للدِّراسات الاستراتيجيَّة، والعتبة العبَّاسية المقدَّسة، السَّنة الثَّالثة، العدد 8، صيف 2016م، ص37.
[6]- انظر: نعيمية بوزيدي، الاستشراق الفرنسي وترجمته للقرآن الكريم، مجلة دراسات لسانية، البليدة، الجزائر، المجلد4، العدد2، 2020م، ص99.
[7]- انظر: عبد الرَّحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، منشورات المؤسسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر، بيروت، ط4، 2003م، ص127.
[8]- انظر: لخضر شايب، نبوة محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الاستشراقي المعاصر، منشورات مكتبة العبيكان، الرِّياض، ط1، 2002م، ص234.
[9]- إبراهيم عوض، ترجمة جاك بيرك للقرآن الكريم بين المادحين والقادحين، منشورات مكتبة زهراء الشَّرق، القاهرة، ط1، 2000م، ص14.
[10]- القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 22.
[11]- إبراهيم عوض، ترجمة جاك بيرك للقرآن الكريم بين المادحين والقادحين، منشورات مكتبة زهراء الشَّرق، القاهرة، ط1، 2000م، ص19.
[12]- انظر: محمَّد عبد الله الشَّرقاوي، الاستشراق وتشكيل نظرة الغرب للإسلام، منشورات دار البشير للنَّشر والتَّوزيع، القاهرة، ط2، 2015م، ص39.
[13]- حفناوي بعلي، التَّرجمة النَّقديَّة التَّأويليَّة الكتب المقدَّسة، منشورات دار اليازوردي العلميَّة للنَّشر، عمان، ط1، 2018م، ص239-240.
[14]- عبد الغني عيسى أويار خوا، أثر اَلأضداد الظَّرفيَّة في تفسير القرآن الكريم وترجمة معانيه، مجلَّة الدِّراسات اللُّغويَّة المجلد 24، العدد الثَّالث، فبراير – أبريل، مركز الملك فيصل للبحوث والدِّراسات الإسلاميَّة، الرِّياض، 2022م، ص44.
[15]- انظر: نبيل صابري، كتاب «القرآن» للمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير «عرض وتقويم»، منشورات مركز تفسير للدِّراسات القرآنيَّة، الرِّياض، 2021م، ص28 وما بعدها.
[16]- انظر: نبيل صابري، كتاب «القرآن» للمستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير «عرض وتقويم»، منشورات مركز تفسير للدِّراسات القرآنيَّة، الرِّياض، 2021م، ص10.
[17]- الشَّيخ طنطاوي جوهري المصري، الجواهر في تفسير القرآن الكريم، الجزء العشرون، ضبطه وصحَّحه: محمد عبدذ السَّلام شاهين، دار الكتب العلميَّة، القاهرة، 2016م، ص96.
[18]- بسَّام بركة، وحسام سباط، ترجمات معاني القرآن الكريم (أعمال المؤتمر الدُّولي الأوَّل الَّذي عقد في لبنان عام 2015)، دار الكتب العلميَّة، القاهرة، 28-29 كانون الأول/ ديسمبر، 2015م، ص74-75.
[19]- عبد الله بن عبد الرحمن الوهيبي، الاستشراق الجديد مقدمات أولية، شركة آفاق المعرفة للنَّشر والتَّوزيع، الرياض، ط3، 2021م، ص147.
[20]- أنظر: المستشرق الفرنسيِّ ريجيس بلاشير ودراسة القرآن، موقع وكالة الأنباء القرآنيَّة الدُّوليَّة، 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2017م. https://2u.pw/ZBYLQ
[21]- مهدي بازر كان، القرآن في مسار تطوُّره: في تحليل البِنية اللَّفظيَّة والموضوعيَّة، ترجمة: كمال السَّيد، شركت سهامي انتشار، طهران، ومركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميِّ، بيروت، 2015م، ص50-52.
[22]- لخضر شايب، نبوَّة محمَّد(صلى الله عليه وآله وسلم) في الفكر الاستشراقيِّ المعاصر، منشورات مكتبة العبيكان، الرِّياض، ط1، 2002م، ص305.
[23]- رمضان حينوني، المستشرقون وبنية النَّصِّ القرآني، دار اليازوردي العلميَّة للنَّشر والتَّوزيع، عمان، ط1، 2021م، ص62.
[24]- رمضان حينوني، المستشرقون وبنية النَّص القرآنيَّ، دار اليازوردي العلميَّة للنَّشر والتَّوزيع، عمان، ط1، 2021م، ص69.
[25]- انظر: إيمان بن محمَّد، البعد الأيديولوجي في ترجمة معاني القرآن عند المستشرقين «ترجمات ريجيس بلاشير وجاك بيرك ومحمَّد حميد الله الفرنسية أنموذجًا»، مجلة معالم، الجزائر، العدد العاشر، 2018م، ص167-168.
[26]- نهاري الشريف، ترجمة معاني القرآن الكريم بين المكن والمستحيل «ترجمة جاك بيرك وريجيس بلاشير أنموذجًا»، مجلة فصل الخطاب، جامعة ابن خلدون، تيَّارات (الجزائر)، 2014م، ص122.
[27]- انظر: عبد الجبار توامة، نقد ترجمة القرآن إلى الفرنسيَّة في ضوء المنهج السِّياقي «ترجمة جاك بيرك نموذجًا»، مجلة المترجم، الأغواط (الجزائر)، المجلد الثَّامن، العدد الثَّاني، ديسمبر 2008م، ص54 وما بعدها.
[28]- القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية، 29.
[29]- صلاح الدِّين بن دريميع، ترجمة الكناية القرآنيَّة إلى اللُّغة الفرنسيَّة: دراسة في ترجمات ريجيس بلاشير ومحمَّد حميد الله وجاك بيرك، مجلة الآداب والعلوم الاجتماعيَّة، الجزائر، المجلَّد السَّابع عشر، العدد الأول، 2020م، ص125-126.
[30]- القرآن الكريم، سورة الفرقان، الآية 27.
[31]- صلاح الدين بن دريميع، ترجمة الكناية القرآنيّة إلى اللغة الفرنسيّة: دراسة في ترجمات ريجيس بلاشير ومحمد حميد الله وجاك بيرك، مجلة الآداب والعلوم الاجتماعية، الجزائر، المجلد السابع عشر، العدد الأول، 2020م، ص127-128.
[32]- أنس الصنهاجي، القرآن في الدِّراسات الاستشراقيَّة الفرنسيَّة، منشورات مجلة دراسات استشراقيَّة، الصَّادرة عن المركز الإسلامي للدِّراسات الاستراتيجيَّة، والعتبة العباسيَّة المقدَّسة، السَّنة الثَّالثة، العدد 8، صيف 2016م، ص42.
[33]- أحمد نصري، آراء المستشرقين الفرنسيِّين في القرآن الكريم «دراسة نقديَّة»، دار القلم للطِّباعة والنَّشر، الرَّباط، ط1، 2009م، ص137.
[34]- انظر: أحمد نصري، آراء المستشرقين الفرنسيِّين في القرآن الكريم «دراسة نقدية»، دار القلم للطِّباعة والنَّشر، الرِّباط، ط1، 2009م، ص139-140.
[35]- القرآن الكريم، سورة الشُّورى، الآية 13.