البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

قراءة في كتاب جاك بيرك "العرب من الأمس إلى الغد"

الباحث :  إعداد: الدكتور محمد القاضي
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  14
السنة :  السنة الخامسة - ربيع 2018م / 1439هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 13 / 2018
عدد زيارات البحث :  1498
تحميل  ( 213.422 KB )
"العرب هم الجسر الذي أوصل
أوروبا إلى طريق هذه الحياة"
جاك بيرك

مدخــل

يقول إدوارد سعيد: "إن الباحثين والنقاد الذين تلقوا تدريبهم في فروع الاستشراق التقليدية قادرون تمامًا على تحرير أنفسهم من السترة المفصلة العقائدية القديمة. فتدريب جاك بيرك ومكسيم رودنسون مثلًا يقف على قدم المساواة مع أكثر أنماط التدريب الموجودة صرامةً وانضباطًا، غير أن ما يمنح الحيوية لاكتناهاتهما حتى لمشكلاتٍ تقليدية هو وعي الذات المنهجي لديهما. فلئن كان الاستشراق تاريخيًا لم يزل معتدًا بنفسه، معزولًا بمناعة، مفرطًا في الثقة، وضعيًا، بطرقه ومقدماته، فإن إحدى الطرق التي يستطيع المرء بها أن يفتح لما يدرس في الشرق أو عن الشرق هي أن يُخضع منهجه انعكاسيًا للتحليل النقدي المتقصي. وهذا هو ما يميز بيرك ورودنسون، كلًا بطريقته الخاصة".

عايش بيرك الكثير من العلماء والمفكرين العرب، وكانت بينه وبين الدكتور طه حسين علاقةٌ عائليةٌ طيبة وخاصةً مع ابنه مؤنس، وهو مدينٌ له بالكثير لأنه هو الذي رشّحه للمجمع اللغوي في القاهرة. وقد أكسبته هذه العلاقات المقدرة والتجربة على التحليل والتعمق في قضايا الإسلام والعروبة، إلى درجة أنه كثيرًا ما يمتلكه "شعورٌ عميقٌ بأنه شرقيٌ أصيلٌ، غير أن هذا الشعور لا يحول دون كونه فرنسيًا جنوبيًا يحتفظ بطابع أمته الخاص"([1]).

وقد نعته الفيلسوف الصهويني "برنار هنري ليفي" مرةً: "إنك عربيٌ ولست فرنسيًا"([2])، لأن اهتماماته بالعرب كبيرةٌ ومتواصلة، وصرف جزءًا كبيرًا من حياته في الجوار مع شعوب العروبة والإسلام، كما ألف عددًا من الكتب في هذا الميدان منها: "دراسةٌ وترجمةٌ للقرآن الكريم"، "الإسلام في زمن العالم"، "العرب"، " العرب أمس وغدًا"، "عوالم عربية"، "داخل المغرب"، "مر من الإمبريالية إلى الثورة"، "الإسلام في مواجهة التحدي"، و"علم الاجتماع الإسلامي"، إضافةً إلى العديد من المقالات والمحاضرات التي تناول فيها تاريخ العرب والإسلام، كما تُرجمت مؤلفاته إلى الإنجليزية والإيطالية والروسية، أما عن الترجمة إلى العربية فيقول: "أنا رجلٌ مظلومٌ لم أترجم إلى اللغة العربية، وقد ترجمت بعض كتبي ترجمةً "قرصانية" وبعضهم يقول: إن لغتي صعبة، وترجمة كتبي صعبة.. يؤسفني ألا يكون العرب قد قرؤوا كل كتبي عدا كتبًا محدودةً ومقالات واستجوابات"([3]).

يتقن بيرك اللغتين الفرنسية والعربية، ويتحدّث الإسبانية والإيطالية، كما درس اليونانية في شبابه، ويتكلم اللهجات المغربية تقريبًا.

أمضى جاك بيرك (1910م – 1995) أكثر من خمسين سنةً من عمره وهو يدرس العالم العربي والإسلامي دراسةً علميةً كمؤرخٍ وعالم اجتماع، خرج منها بنتائج مهمةٍ جدًا عن المجتمعات العربية والإسلامية. وكانت لولادته في الجزائر "قصةٌ جميلةٌ ومؤثرةٌ حدثت بعدها مؤانسة بينه وبين المغاربة، تركت عنده شعورًا خاصًا هو أن العرب ما كانوا بالنسبة إليه أجانب أبدا"([4]). والعرب بالنسبة إليه هم أولئك الذين يعتقدون أنهم عرب، أو بعبارةٍ أخرى هم قوة المقاومة والأمل والنضال ضد الظلم الذي لحق منذ أكثر من قرنٍ وزيادة بالضفة الجنوبية للمتوسط على يد الأنانية الآتية من الضفة الشمالية([5]).

لقد انبرى جاك بيرك للحديث عن الحضارة العربية الإسلامية، وفضل العرب على الحضارة الإنسانية، ومدى استفادة الغرب من مدنيتهم، إضافةً إلى دراسة المجتمعات العربية الإسلامية التي عايشها لمدةٍ طويلةٍ من الزمن، ويرى أن العرب هم الجسر الذي أوصل أوروبا إلى طريق الحياة. "هل أذكّركم بما فعله الخليفة العباسي المأمون يوم ترجم كل علوم اليونان إلى اللغة العربية [...] هل أذكّركم بما فعله العرب في الأندلس؟ هل أحدّثكم عن الغزالي والكندي وابن رشد وابن خلدون؟"([6]).

إن المكانة المرموقة التي تشغلها الحضارة العربية في تاريخ البشرية أمرٌ مسلّمٌ به، لأنها حضارةٌ عالميةٌ تمتد نحو أزمنة بعيدة، امتد تأثيرها إلى عددٍ كبيرٍ من الشعوب. ويجب الاعتراف هنا بما قام به جاك بيرك في إبراز هذا الفضل، وذلك إخلاصًا للحقيقة العلمية في كتابه "العرب من الأمس إلى الغد"، الذي نقوم بعرضه في هذه الدراسة:

صدر الكتاب في طبعته العربية سنة 1402هــ / 1982م، والذي قام بترجمته عن الفرنسية هو الدكتور علي سعيد، ونشرته دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة/ بيروت. وهو في 436 صفحةً من الحجم المتوسط. ويشتمل الكتاب على مقدمة وأربعة عشر فصلًا.

ومما جاء في المقدمة: "إنه قد يبدو أن المدلول المعطى هنا لاسم العرب يشكو من علتين: التجاوز والتقصير. فقد تجاوز عندما يشتمل، رغم فوارق الأصل واللون والمصير، على جميع الذين يريدون أنفسهم أو يحسون أنفسهم عربًا، أعني أنهم عربٌ في هذه المناسبة أو تلك، على هذا الصعيد أو ذاك من حياتهم [...] وعلة كتابي هذا أيضًا التقصير من حيث إنه يهتم خاصة بالأراضي العريقة التي ترسم، من الأقصى إلى البصرة، قوسًا دائريًا مركزه الصحراء، ويستهدف سهمه فرنسا.

ولكن ما يبرر ذلك هو أن البلدان العربية التي سوف يتردد الحديث عنها، هنا، أكثر ما يكون الحديث، لبنان والعراق ومصر، هي تلك التي شُرع فيها ببناء المستقبل وبتصوره، وإنني، كذلك، أعرف هذه البلدان أكثر من غيرها، معرفة من زارها وتردد إليها، وأحبها، ولأنها تبعث في نفسي، خلف كل واقعةٍ وكل اسمٍ، ذكرى تلك المشارف من حياتي المعاشة التي لا غنى للتحليل عنها، ولماذا استبعد أهل المغرب؟ ذلك أن المغرب الذي أنتمي إليه بما هو أوثق من روابط أبحاثي، مدينٌ لعبقريته الخشنة وتشنجات آلامه بطرافته التي آمل أن يوضحها كتابٌ مقبل".

ويضيف قائلًا: "إن الدقة أو الأمانة التي كنت أطمح إليها تشتمل ليس فقط على فجواتٍ في المدى المعني وإنما أخطارها الخاصة بها. ففي سعيي وراء الموضوعية، لصق الوقائع والأفكار، كان حتمًا عليّ ألا ألحظ إلا النسبة بين الشخصين: الشرق العربي، مثلما حُدّد بصورةٍ كيفية، والغرب الذي يستدعي تحديده، هو أيضًا، بعض التحفظات.

فهذا الغرب، هو ذلك الذي اختبره تاريخ العرب المعاصر، منذ قرن ونيف. في الأساس: الصدام الفرنسي الإنجليزي عند منطلق الشوط، والتنافس بين الكتل الكبرى عند نهايته".

أما فصول الكتاب فقد خصصها للحديث عن:

القطعية مع الإنسان التقليدي (الفصل الأول).

عوامل متغيّرة وعوامل لا تتغيّر (الفصل الثاني).

الاقتراب من الجانب الاقتصادي (الفصل الثالث).

الجانب المالي: داء الدلالة (الفصل الرابع).

بلوغ التقنية أو بعث الشيء (الفصل الخامس).

ترددات حول المنشأة (الفصل السادس).

إمامة العصر الحديث (الفصل السابع).

الصعود نحو الأسس (الفصل الثامن).

حجب المرأة (الفصل التاسع).

مغامرات الكلمة (الفصل العاشر).

الزخرف العربي، والموسيقى، واستخدام التاريخ (الفصل الحادي عشر).

القيم السياسية (الفصل الثاني عشر).

محاولات تجاوز (الفصل الثالث عشر).

العرب والعالم ونحن (الفصل الرابع عشر).

وبعد دراسة هذه الفصول واستيعابها والوقوف على مضامينها، استخلصتُ ما يلي، وهو أن الفصول 1 - 2 - 3 - 4 - 5 ركّز فيها على الصراع بين القديم والجديد الذي عاشته الشعوب العربية في كلٍ من سوريا ومصر والسودان والعراق مع بداية القرن العشرين، وأهمية الدور الاقتصادي في تنمية هذه البلدان (دور التأمين، الإحصاء، داء الدلالة، صعوبات وتهديدات توظيف الرساميل وانتقالها، تكوين رأسمال عربي، التوسع المصري في الارتقاء إلى التقنية، نحو مدنية الشيء الصناعي...).

وإذا كان الشرق موطن "الكلمة"، فهو موطن الإنسان الذي يتلقى الكلمة ويكثرها. وليس من مكانٍ آخر يقيم فيه الإنسان الاجتماعي علاقاتٍ أوسع أو فجائية أكثر. فبهاء الماضي، وبؤس الحاضر، ونداء الحواس والمطلق، والاندفاع الأعنف، كل هذه المظاهر تتبدى فيه مجتمعةً، متضادةً، أو متساوقةً، مخلصةً أو حكايات تمثل لحسن النية، والتأليف بينها يجمع كل النقائض ويشرع الشتات، متضمنًا الخير أو الدمار حسب الحالات.

ففي الشرق العربي يلتقي الخالد والمؤقت، السامي والرخيص، والنهم العاصف للوجود والوفاء للجوهر، ويتحد في إشارة، في عبارة، في مشهد.

وعند العرب، يكمن "القديم" هدف الهجمات العنيفة من قبل أنصار "الجديد" أن يصبح اسمًا آخر "الأساسي". وقد تناول العرب قديمهم بكثير من السوء، أو على الأقل القديم الذي خلّفته أربعة قرونٍ من السلطنة العثمانية. وقد كان في ذلك اعترافٌ باستمراره لماضٍ ذي ضماناتٍ لا محدودة. ولكن هذا القديم، الذي يحمل، في نهاية الأمر، وزر أنه "استحق" الاستعمار، وأنه تحالف معه إلى حدٍ ما، قد استهدف للقمة المتراكمة المتحدرة من رد الفعل المزدوج لهذه الشعوب، ليس فقط ضد الذين أخضعوها، ولكن أيضًا ضد أولئك الذين خضعوا من بين صفوفها.

ثم يتحدث عن الكلاسيكية الدمشقية، فدمشق المدينة الزاخرة بالمعاني، يتداخل فيها القديم والجديد، مدينة محمومة، حادقة ومتجددة أبدًا. لقد تخطت الرسم المستطيل الذي عرف عنها في القرون الوسطى. فقد انطلقت نحو الجنوب حيًا مديدًا من أحياء الضاحية: إنه حي الميدان الذي يوجه الحجاج نحو مكة المكرمة. ويذكر جبل قاسيون وقبر المتصوف الأندلسي محيي الدين بن العربي، ومدفن أهل الكهف. ويتعرض لحادثةٍ تاريخيةٍ مهمةٍ تتعلق بخطاب الشيخ رشيد رضا الإصلاحي سنة 1908م حاضًا المؤمنين على التمسك بأصول السيرة النبوية الموثوقة، فقاطعه شيخ آخر، هو صالح الشريف التونسي، ليدافع عن طقوس العبادات الخاصة بالطرق الدينية وعن أهمية وساطة الأولياء. فكانت فضيحة كبرى. واعتُقل الخطيب المشاغب. وأراد بهذه الحادثة أن يبين إلى أي حدٍ كان أبطال التعلق بمخلفات الماضي يستمدون من قوة الشعور في المدينة.

ثم يتحدث عن البدوي الأبدي، والهليني الجهنمي، لينتقل بعد ذلك إلى الفصل الثاني الذي خصصه لما يتغير وما لا يتغير من العوامل، ومن بين ما تناول فيه هو الحوار بين الشرق والغرب، فقد رأى أن الكثيرين طرحوا فيما بين الحربين المشكلة لتصنيفٍ جغرافيٍ مقرونٍ بحكمٍ مؤداه أن الشرق هو مملكة الروح والغرب مملكة المادة والسببيات القاهرة. وكذلك وفقًا لتراتبٍ بسيكولوجي، يضع بعض طبقات الروح في خدمة الفكر وطبقاتٍ أخرى في خدمة المادة.

إن جرد مكتسبات الإسلام في منطقة البحر الأبيض المتوسط في فتراتٍ تاريخية، وفي بلدان لم تدخلها الحضارة الآلية، يفضح بصورةٍ أكيدة فقره النسبي بالمعدات. وذلك على السواء في الحياة البدوية وفي حياة المدينة. ويمكن تحديد بدء نضوب الازدهار في الصناعة اليدوية عند القرن الخامس عشر...  وقد قاست البلدان العربية من جمودٍ سياسيٍ طويل. وحتى التحولات الكبرى التي ظهرت في الحقبة الحديثة، ظلت هذه البلدان تخضع لعالم الآخرين، أكثر مما حاولت تكييف عالمها الذاتي بصورةٍ فاعلة.

وفي هذه المرحلة التي يمكن - كما يقول - تسميتها المرحلة التقليدية كان عدد الشيء الموضوع، وشكله وطابعه، يعكس علاقات قوةٍ أحادية الاتجاه. فمصر تنتج القطن ولكن المنسوجات القطنية كانت تأتيها من مانشستر. ولبنان يغرس أشجار التوت ولكن حرائر معامل ليون الفرنسية تغزو البيوتات الغنية في فاس مثلما في حلب، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من الترف في المفروشات وفي الزينة النسائية. وماذا نقول عن المعادن! وحتى يومنا هذا، تكفيك زيارةٍ لأسواق بغداد لتقنعك أن الأدوات والآنية والأجهزة كلها مستوردة، ونفس الشيء نقوله عن الدول الأخرى المندرجة في محيط العالم العربي شرقه ومغربه.

ومنذ 1951م وردت تحفظاتٌ شديدةٌ حول القدرات الصناعية في التقرير السنوي للاتحاد المصري للصناعات في مصر، وذلك لانعدام الملاءمة بين النظام الجمركي والإداري والتشريعي، ومع ذلك، فإن قفزةً قد حدثت منذ عام 1930م. ولم يعد يكتفي بنظام حمايةٍ جمركيةٍ يتسم بالخجل والاعتدال.

وفي سنة 1950م يبدأ في الشرق عهد المصاعد الفخمة. وهو كذلك عهد البنايات الحديثة المشيّدة بالإسمنت المسلّح، والمضاربات على الأجور وتوظيف الأموال في المدن. والتطور الثالث الحديث، ويتمثل في انتشار الحاجيات الإضافية في حياة المنزل البورجوازي، وهو ما أحدث اضطرابًا في الاقتصاد المنزلي، كما تغير نظام التغذية بشكل ملموس.

وانطلاقًا من الفصل الثامن، والمعنون بـ"الصعود نحو الأسس"، يتغير الحديث، ويتحول إلى تحديد مفهوم العقل، ومحاولته في صياغة الواقع على صورته ومثاله، وإرسائه على المنطق والعدالة؛ ويصبح الماضي مرفوضًا ومحرجًا، وإن كان هناك ما هو صالح، لأنه يشكل، في نهاية المطاف، مادة المبادرة العاقلة، وموضوع المنافسة فيها في آن واحد.

وقد جرب العراق في سنة 1958م الأخطار التي يمكن أن تنجم عن بذل مجهودٍ جد حساسٍ في سبيل التنمية، عندما لا يضطلع به المواطن بأي شكلٍ من الأشكال. ولهذا السبب، تطلق الرغبات في بناء المجتمع على النحو العصري، وفي إعادة تنظيمه محاولاتٌ وسيطةٌ من جانب الجماهير، سواء كانت هذه الرغبات مجسدةً في رجلٍ أو في طبقة، أو في هذا النشاط أو ذاك، من النوع الذي يمثل ظاهرة التجدد الاجتماعي - التجهيز، والتربية. الخ... وكثيرٌ من المبادرات يمكن أن تُفهم على هذا النحو.

ثم ينتقل إلى الحديث عن ارتقاء الطبقات في المجتمعات العربية مع بداية القرن العشرين، حيث تضخم عدد الجمعيات واللجان التي كانت على صلةٍ بالقومية الأولى، مبشرًا بشكلٍ جديدٍ من الارتباط الاجتماعي من "التكتل"، وصعود البرجوازية الصغيرة، مع تكاثر الموظفين في الدول الجديدة، التي لعبت دورًا سياسيًا داخل المجتمعات العربية.

أما عن دور المرأة العربية وإسهامها في التحرر الوطني، كأمٍ وزوجةٍ وفاعلةٍ اجتماعية، فقد كان حضورها بارزًا في كثيرٍ من الجمعيات النسائية التي ظهرت في بعض المشرق كمصر وسوريا ولبنان والعراق، إذ أخذت تنتزع بعنفٍ، كل يوم أشد، حقها في الوجود كشخصٍ وكمواطنة.

أما عن دور اللغة الفحصي في مجال التعليم، فقد لاحظ جاك بيرك أن التعليم الابتدائي كان يزدهر في البلدان العربية قبل الاستعمار باللغة العربية، فالناس يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب. وهو ما يزيد الكلمات رسوخًا في الأذهان والخواطر. ولهذا فإن صعود العرب من جديد على طريق الانبعاث قد بدأ بالبعث اللغوي. بعد فترة الانحطاط والتدهور الاقتصادي للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر.

وتحدّث عن رواد النهضة في العالم العربي ودورهم في العناية بالأدب وفنونه (شعره ونثره)، والمسرح، والخطابة، والصحافة، والموسيقى، والكتابة التاريخية، والفنون، والتصوير، والزخرف. وفتح باب الحوار بين المشرق والغرب.

قيمة الجانب السياسي: (الفصل 12 و13)                                       

لاحظ المؤلف أن ما يثير انتباه الأجنبي عند العرب اليوم، وما يحتل أكثر ما يكون من المكانة في أقوالهم وكتاباتهم، هو عودتهم لأخذ مقعدهم في الحياة الدولية. وهذه العودة التي لا تهم بحق العالم النفسي والمؤرخ مثلما تهم رجل السياسة، تتسارع في هذه الأيام، فقد قطعت مسافة أقل بين أنصاف المستعمرين قبل سنة 1914م إلى أصحاب المطالب القومية في أعوام 1920م وبين هؤلاء وثوار 1925م، من المسافة التي قطعت بين الذين انعتقوا في 1945م ومواطني 1960م، ومما سوف يقطع دون شك انطلاقًا من هؤلاء الأخيرين في السير نحو عرب المستقبل، فعلى كل الجانب الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط، يغطي استقلالٌ يزداد جذريةً شيئًا فشيئًا، ولكنه أضحى اليوم شيئًا بنّاءً، بصورةٍ راهنة، وأحيانًا مستعدًا للتعاون، يغطي هذا الاستقلال منطقةً تمتد من المغرب إلى العراق باستثناء الجزائر وحدها، منطقة كانت لثلث قرن خلا فقط تابعةً أو خاضعةً للاحتلال الأجنبي.

ثم تعرّض إلى السياسية العربية والتقدم الاجتماعي، والتشكيلات الضيّقة، والتشكّلات الواسعة، وحضور الآخر، والحركة القومية في الوطن العربي (مصر - سوريا - العراق) والمفكرين والثوريين.

وأخيرًا نقف على موضوع "العرب والعالم ونحن" الذي خصّص له الفصل الرابع عشر، طرح فيه مشكلة الشرق العربي المنصهرة في مشكلة الإنسانية الحاضرة وهي: الاحتفاظ بهويتها في حالة التحول الهائل للتقدم التقني.

وانطلاقًا من عالم بطيءٍ ومتعدد الألوان، يقول: ها نحن جميعًا ننحرف نحو عالمٍ يزداد سنةً بعد سنة. تحديدًا وتقريبًا بين المستويات المختلفة. وإن التنوعات الغنية في المكان التي كان يحدثها الإنسان بين بلدٍ وآخر، وبين منطقةٍ وأخرى، تتحول إلى تنوع في الزمان، أي إلى تحولٍ مفاجئٍ في الذات. وهذا الأمر يعني، بالنسبة لكل وحدةٍ أصيلةٍ، فقدانها ما يميزها عن الوحدات الأخرى، إذًا فقدانها، من وجوهٍ عديدة، ما هي عليه بالذات، وذلك مقابل حقها في أن تبقى، فهل من اللازم أن يدفع هذا الثمن الغالي في سبيل البقاء على قيد الوجود؟ أكيد أنه نظلّ في كل مكانٍ رواسب من "الأخطاء الدقيقة"، ومن التباين الدقيق بين الناس، وهذا التباين لا يزال يتجلى في تنوّعٍ لا حد له في عمليات الاختيار وفي الحلول.

والمفكرون العرب كثيرًا ما طرحوا بوعيٍ موضوع التباين والاختلاف بينهم وبين الغرب. ونداءات الحياة الحديثة بتنظيم علاقات فيما بينهم والآخرين من جهة، وبين الشخص والبيئة من جهة أخرى، والأكثرية منهم على الرغم من مهابات ماض وعقيدةٍ دينيةٍ أكثر تأثيرًا عندهم مما عندنا (الغرب). لا يبحثون عن الحلول في العودة إلى ما لا علم لي - يقول الكاتب - به من عصورٍ ذهنيةٍ يزعم أنها سليمةٌ من قوانين التطور التقني. ويقود الإيمان بالتقدم المادي، وبفضائل السير قدمًا للأمام، الجهود المتحفزة ويذكي الحماس في نفحات الشجاعة، هناك كما هنا. ولكن هنا تقف المقارنة ووجوه الشبه، فإذا كانت المشكلة واحدةً، فإن الصيغ والوسائل، والأشكال والمعاني تختلف "اختلاف محسوسًا".

ويرى جاك بيرك في كتابه هذا، أن المستقبل سوف يكون أكثر ابتذالًا وتفاهة. إن خطوطًا سترتسم وفقًا للأزمنة، والأمكنة، ووفقًا للشعوب والأفراد، ويقف في هذه المسافة أو تلك من أحد الطرفين المتناقضين أو من الآخر، دون أن ينطبق على واحد منهما. ومع ذلك، فإن من حقي أن أحرّك هذا الحل المتناوب: بالضبط لأنه لا واقعي، إلى حدٍ كبير، ولكنه يعطي التلاوين لتقديراتنا حول مستقبل العواطف العنيفة التي لا يملك المؤرخ لشؤون العرب لا الواجب ولا الحق في تحاشيها. وفوق ذلك، فهل بوقوفي موقف البرودة العاطفية أستطيع أن أصل إلى تقديراتٍ مختلفة بصورة محسوسة؟

لقد ظل العرب طويلًا موضوع التوسع وليس صانعيه، وضحاياه بدلًا من أن يكونوا المنتفعين به. هذا التوسع قد أحدث قطع علاقاتهم مع التاريخ والطبيعية. وفي الوقت الذي يخضعون فيه على هذا النحو، وبصورة قاهرة، لنمو الآخرين، هم يتردون إلى حالة أَشد وأسوأ من حالة التخلي والهدر: إنهم مبتورون، ومحجوبون، ومنطوون على أنفسهم، يمضغون المرارة واليأس، إنهم ممن يستعصى عليه العزاء.

ترى هل ينطبق هذا على العرب اليوم؟ نترك الجواب للعرب.

*  هوامش البحث  *

([1])  جريدة العلم الثقافي، حوار معه / عدد: 16 / 11 / 1973، ص5.

([2])  مجلة شؤون عربية، حوار معه في العدد: 5 / 1981، ص 217.

([3])  مجلة آفاق عربية، حوار معه، عدد: 10/ س: 4 (1984)، ص 117.

([4])  مجلة آفاق عربية، عدد: 7 / 1983، ص 132.

([5])  العلم الثقافي، عدد: 30 / 06 / 1978، ص 4.

([6])  جريدة العلم، عدد 24 / 03 / 1983، ص 8.