البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مخاطر استهداف المستشرقين للغة العربية

الباحث :  د. صالح زهر الدين
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  14
السنة :  السنة الخامسة - ربيع 2018م / 1439هـ
تاريخ إضافة البحث :  June / 13 / 2018
عدد زيارات البحث :  2085
تحميل  ( 335.963 KB )
يجمع الكثير من المفكرين واللغويين على ريادة المكانة التي تحتلها «اللغة» في حياة الشعوب والأوطان؛ وكذلك الدور الذي تلعبه في المسيرة البشرية نحو العلم والتقدم والحضارة.

على هذا الأساس، تعتبر عملية «غزو العقول» أشد فتكًا وأخطر مراتٍ عدّةً من «الغزو العسكري» المسلح بأحدث آلات الفتك والتدمير المتطورة. ولم ينجُ العرب أنفسهم من مختلف حالات «الغزو»، القديمة منها والحديثة؛ كما لم تكن لغتهم بمعزلٍ عن هذا الاتجاه، وإنما كانت هدفًا مركزيًا على جدول الغزاة.

ومن الطبيعي أنه «لا يوجد رجل كالجزيرة، قائمٌ بذاته، كل رجلٍ هو جزءٌ من القارة؛ جزءٌ من الأصل» على حد تعبير «دون» الشهير. وفي اللحظة التي نولد فيها يتناولنا العالم ويحوّلنا من مجرد وحداتٍ بيولوجيةٍ إلى وحداتٍ اجتماعية. إن كل كائنٍ بشريٍ في كل مرحلةٍ من مراحل التاريخ أو ما قبل التاريخ قد ولد في مجتمعٍ أخذ في قولبته منذ سنواته المبكرة. وإن اللغة التي ينطق بها ليست إرثًا فرديًا، وإنما هي اكتسابٌ اجتماعيٌ من الجماعة التي يترعرع بينها. فاللغة والبيئة كلاهما يساعدان في تحديد ماهية فكره، أما أفكاره المبكرة فتأتيه من الآخرين([1]).

على ضوء ذلك، ليس من المستغرب أن تتعرض لغة شعبٍ من الشعوب فيمرحلة الغزو والاحتلال إلى محاولات «الإذابة» و«المحو» باعتبارها معيارًا أساسيًالتحديد الذات والهوية القومية. فهي شريان الأمة، وأقنوم الحضارة، وقبلة الفخر والولاء – كما يقول جمال الدين الأفغاني – ولو أضاعت أمةٌ لسانها لفقدت بالطبع تاريخها وحضارتها([2]). وعلى أساس ذلك يقول همبولت Humboldt بأن «لسان أمّةٍ هو جزءٌ من عقليّتها، وأنّ لغة شعبٍ ما هي روحه، كما أن روح الشعب هي لغته»([3]). وأي كائنٍ يفقد روحه، فإنه يفقد بالتالي حياته.

«فاللغة هي مستودع تراث الأمم»([4])، وقلّما تعرّضت لغة أمّةٍ من أمم الأرض إلى ما تعرضت إليه اللغة العربية، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب والأبعاد الكامنة وراء ذلك.

لقد بيّن الرسول العربي (ص)، زارع أوّل بذرةٍ قوميّةٍ، منزلة اللغة من القومية، عندما ناشد قومه قائلًا: «أيها الناس إن الرب واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن يتكلّم بالعربية فهو عربي»([5]).

ولأنّ اللغة من أقوى عوامل الوحدة والتضامن بين أبناء الأمة الواحدة، فهي القادرة في كل أحوالها على تحويل الإنسان إلى كائنٍ اجتماعيٍ يتحسس الواقع، ويستشرف الخصائص المميزة التي تكمن في كل إشارةٍ من إشاراتها ودلالةٍ من دلالاتها... وهي بالتالي تجعل من الأمة الناطقة بها كلًا متماسكًا ومتراصًا تحكمه قواعدها وأصولها، وتوحّد تفكيرهم أساليبُها وطرائقُها. ومن هنا أصبحت اللغة بمثابة الرابطة الحقيقية التي توحّد بين رغبات أفراد الأمة ومطامحهم، وتعيش في أذهانهم فكرًا وأملًا وحياة... وقد وجد فيها العرب منذ أقدم العصور صفة الملازمة للفرد في حياته وتسرّبها إلى أعماقه حسًا ووجدانًا، وتوغلها في تضاعيف نفسه لتعبّر عن أدق خطراته ورغباته([6]).

وفي هذا الإطار، كتب الدكتور صالح أحمد العلي (رئيس المجمع العلمي العراقي)، مؤكدًا بأن «اللغة أداة التفاهم واكتساب المعرفة وإنماء الفكر. وهي بوجهتها السليمة أمتن رابطٍ يشدّ الأفراد ويكوّن من مجموعهم أمةً متميّزةً قادرةً على البقاء والنمو. وللعربية مكانةٌ متميّزةٌ بين لغات الأمم، لا لأنّها من أقدم اللغات الحيّة فقط، وإنما لأن تكوينها وخصائصها يسّرا لها القدرة على التعبير عن مختلف الأشياء المادية وأدق الأفكار المجرّدة. ويكفيها فخرًا أن القرآن الكريم نزل بها، وأكّد أن من معجزاته أنه بلسان عربي مبين، وكان – وهو كتاب الله المنزل، والمعين الصافي السليم – المرجع المعتمد للغة، والأداة المكينة في نشرها بين الشعوب الكثيرة التي آمنت بالإسلام واتخذته معتقدًا وموجّهًا للحياة»... ويضيف د. العلي قائلًا بأن «اللغة العربية هي أبرز ما يتميّز به العرب، وأقوى رابطٍ يشدّهم إلى تاريخهم القديم ويُظهر استمراريتهم وبقاءهم ويجمعهم اليوم بالرغم مما بينهم من اختلافاتٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ أو اجتماعيةٍ...»([7]).

وعندما أكّد المفكّر والمؤرّخ محمد جميل بيهم بأنّ «اللغة القومية الأم هي الأساس الرئيس لوحدة الأمّة»([8])، فقد كانت اللغة العربية ليست مجرّد رموزٍ ولا مجرّد أداةٍ للتفاهم، ولكنّها صورة تاريخنا ووعاء تراثنا ومرتسم حضارتنا أيضًا – حسب تعبير د. مازن المبارك –([9]). وفوق ذلك كله، فهي لغة الملايين من المتحدثين بها في الوطن العربي أو الناطقين بها في العالم الإسلامي وبعض أرجاء المعمورة الأخرى. وهي لغةٌ موغلةٌ في القِدم لا يعرف أحد نشأتها الأولى... وقد جاء عن النبي محمد (ص) أن «أول من كتب بالعربية إسماعيل»... وكتاب الله أصدق كتابٍ في تصوير اللغة العربية؛ فقد نزل بلسانٍ عربيٍ مبينٍ على أمةٍ فصيحةٍ بليغةٍ فبهرها، وجعل بعضُ من لم يهدهم الله يفرون منه لئلا يقع في الآذان والقلوب موقعًا حسنًا فيدفعهم إلى اعتناق الرسالة الخالدة والسير في سبيل الهداية والنور. ويمثل كتاب الله أرفع كلام عربي وأسماه. وروعة القرآن الكريم وبلاغته وفصاحته وأسلوبه تدل على أن العربية قديمةٌ... وهو يحمل سمات الأصالة ويتحدّى الزمان. فالعربية لغةٌ متواصلة، وهذا التواصل من أهم خصائصها. وقد شهد العالم لغاتٍ كثيرةً وعرف لها أدبًا وعلمًا ولكنها أصبحت تاريخًا يُذكر بعد أن بادت أممها، وظلت العربية تواصل سيرها ومعها الأمة العربية وهي تبني حضارةً وتنقل العالم من الظلمات إلى النور([10]).

هذا، وقد أكد المفكر العربي الكبير ساطع الحصري «أن كل أمةٍ من الأمم تحتاج إلى لغة «موحّدة» تزيدها تجاوبًا وتماسكًا، وتكون «موحِّدةً»»([11]). كما ركز في تحديده لمقومات القومية العربية على الأساس الموضوعي الذي «هو في نهاية الأمر، وقبل كل شيء، اللغة»([12]). ويضيف الحصري قائلًا: «كل من ينتسب إلى البلاد العربية، ويتكلم اللغة العربية، هو عربي، مهما كان اسم الدولة التي يحمل جنسيتها بصورةٍ رسمية، ومهما كانت الديانة التي يدين بها، والمذهب الذي ينتمي إليه، ومهما كان أصله ونسبه وتاريخ حياة أسرته [...] فهو عربي، والعروبة ليست خاصةً بأبناء الجزيرة العربية، ولا مختصةٌ بالمسلمين وحدهم، بل إنها تشمل كل من ينتسب إلى البلاد العربية، ويتكلم باللغة العربية، سواء كان مصريًا أو كويتيًا أو مراكشيًا، وسواء كان مسلمًا أو مسيحيًا، وسواء كان سنّيًا أو جعفريًا «شيعيًا» أو درزيًا، وسواء كان كاثوليكيًا أو أرثوذكسيًا أو بروتستانتيًا، فهو من أبناء العروبة ما دام ينتسب إلى البلاد العربية ويتكلم العربية»([13]).

وهل هناك لغةٌ موحَّدةٌ وموحِّدةٌ في الوقت ذاته أكثر من اللغة العربية؟ طبعًا لا. ألم يقل الشاعر العربي في معرض ذلك:

إن فرّق الإيمان بين جموعنـافلساننا العربي خير موحِّد؟

ألم يتساءل أيضًا محمد محمد حسين في هذا الإطار قائلًا: «إذا لم يكن الدين أعظم جامعةٍ لسكان الأقطار العربية، فأية جامعة هناك تقام مقامه؟ أي قوةٍ تستطيع أن تضم هذه الأقطار، وتؤلف في كل منها وحدةً قوميةً؟ ويجيب: هناك قوةٌ واحدةٌ تستطيع ذلك، هي اللغة»([14]).

فاللغة العربية إذًا هي لغةٌ موحِّدة وموحَّدة، ولأنها كذلك، فقد عرفت ما عرفته على مرّ تاريخها من هجماتٍ ومحاولاتٍ متواصلةٍ ومستمرةٍ للنيل منها والقضاء عليها. ولعلّ خير دليل على ذلك هو قِدميّتها بين لغات العالم من جهة، وتواصلها الذي يعتبر من أهم خصائصها من جهةٍ ثانية، وهاتان السمتان (القِدمية والتواصل) دعامتان أساسيتان يضيفان عليها صفة الخلود بين لغات الأرض، نظرًا لارتباطها بالقرآن الكريم. وقد أثبتت على مرّ الزمن جدارتها بهذه الصفة. ومن هذا المنطلق كتب د. أحمد محمد الضبيب (الأستاذ في جامعة الرياض والأمين العام لمؤسسة الملك فيصل) يقول: «وعندما نزل القرآن الكريم باللغة الفصحى ازدادت اللغة العربية رسوخًا في أذهان الناس واحترامًا في نفوسهم، فعاشت بين العرب والمسلمين تتردد في مختلف العصور والبيئات، لغةً للثقافة والعلم والأدب، وسفيرًا بين الأجيال يربط حاضرها بماضيها، ووسيلةً رائعةً من وسائل الاتصال بين العرب في مختلف بيئاتهم وأماكنهم، حيث يتكلم كلٌّ منهم لهجته المحلية. وقد أدت الفصحى وظيفتها على أحسن وجه، فكانت ظاهرةً فذّةً بين اللغات في قدرتها على الاستمرار واحتفاظ الناس بها، وفهمهم لها في مختلف البيئات والعصور، وما ذلك إلا لأنها ارتبطت بالقرآن الكريم فخلدت بخلوده، ولولاه لانحلّت عراها وذابت في لهجاتها المحلية، كما حدث للغات أخرى مماثلة»([15]).

وانطلاقًا من كون اللغة العربية لغةً موحَّدةً وموحِّدةً، فقد كانت – ولا تزال – عرضةً لكل أساليب الحروب التي عرفتها البشرية على مرّ تاريخها، وكلُّ ما تميّزت به الحروب من فنونٍ وخططٍ وخداع، كان للأمة العربية نصيبٌ وافرٌ منها.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبع ذلك موجة «الصليبية» القادمة من أقاصي الغرب لتعلّم الشرقيين – والعرب منهم في الصميم – أن «الإنجيل المقدس» هو الكتاب الأوحد لأمم الأرض قاطبةً، وليس للقرآن الكريم ولغته العربية مكانٌ في هذا القاموس الوجودي... والإنجيل براءٌ من الصليبيين وعدوانيّتهم.

ثم كانت موجة «التتريك» العثمانية، والتي تلطّت بلباسٍ إسلاميٍ مع أن العرب (ولغتهم وحضارتهم) كانوا من كبار ضحاياها، وكانت اللغة التركية هي لغة التدريس في بلاد الشام، وكانت اللغة العربية نفسها تدرّس باللغة التركية، وكتب نحوها وصرفها تؤلف باللغة التركية... ولهذا نرى عبد الرحمن الكواكبي في صيحته القومية، ودعوته إلى الوحدة الوطنية، يتجاوز أستاذه الأفغاني، ويناشد العرب في انتزاع السلطة من الأتراك، وإعطاء الخلافة إلى قرشي، يعرف اللغة العربية وعلومها([16])، وذلك لأن «لغة قريش كانت أفصح اللغات العربية وأصرحها»، على حد قول العلامة ابن خلدون([17])، وبها نزل القرآن الكريم.

وعندما هُزم العثمانيون – التتريكيون – في نهاية الحرب العالمية الأولى، شهدت المنطقة العربية موجةً استعماريةً حديثةً كمقدمةٍ للـ«صهينة» وإلحاق البلاد العربية بإمبراطوريات الإغريق والرومان.

وقد وجد أعداء العرب والعروبة أن تغذية اللهجات العامّية وحقنها بالمورفين الاستعماري تُعتبر من أنجع الأساليب لإحداث الخلل والاهتزاز في بنيان اللغة العربية، على طريق هدم مداميكها من الأساس من خلال هذه «الأسافين» الفتاكة. ولم يتورعوا مطلقًا عن استخدامها عبر مدارسهم الاستعمارية التي أنشئت خصيصًا لدراسة اللهجات العربية المحلية، وفي جامعاتهم أيضًا، بمساعدة بعض الشرقيين الذين كانوا يتواجدون في هذه الدول الأم، وبالمستشرقين الذين أبلوا بلاءً حسنًا في هذا المضمار. وسنتطرق في هذا الموضوع إلى نماذج من هذا الأسلوب في شرقي الجزيرة العربية، والمغرب العربي (وخصوصًا الجزائر) ومصر ولبنان، لندرك بالتالي جدّية الاهتمام الاستعماري في مسخ اللغة العربية وتشويهها.

لم يكن اهتمام الدول الاستعمارية باللهجات العربية العامية من أجل البحث العلمي كما كانت تدّعي، ولا في سبيل إغناء اللغة العربية وتقويتها، ولا من أجل حاجتها إلى المعرفة، بل كان ذلك من أجل هدفٍ مركزيٍ يتمحور حول القضاء على العربية الفصيحة وإحلال العامية محلّها، حتى يتسنّى لهم التفاهم بها في مستعمراتهم واستغلالها في التجسس والاتصال بعامة الشعب. ولكي تتخذ هذه الناحيةُ الصفةَ «الأكاديمية»، فقد عمدت الدول الاستعمارية إلى تأسيس المدارس والمعاهد الخاصة بتدريس اللهجات العربية المحلية فيها.

ففي إيطاليا مثلًا، دُرِّست العامية في مدرسة نابولي للدروس الشرقية التي أنشئت سنة 1727.

وفي النمسا، أنشئت مدرسة القناصل في فيينا سنة 1754 لأنها كانت تعلّم القناصل لغات الشرق، ومنها العربية، مهتمةً بلهجاتها العامية. ثم تأسست سنة 1851 مدرسةٌ للهجات الشرقية. وهكذا يبدو بأنها عملية تجهيزٍ للكوادر المؤهلة بتأدية دورٍ مهمٍ على هذا الصعيد.

وفي فرنسا، دُرِّست اللهجات العربية العامية في مدرسة باريس للغات الشرقية الحية التي أنشئت سنة 1759.

وفي روسيا، أنشئت مدرسة لازاروف للغات الشرقية في مدينة موسكو سنة 1814، وكانت تُدِّرس العربية ولغات الشرق الأخرى. وفي سنة 1909، خصّصت فرعًا لها لتدريس العربية ولهجاتها العامية.

وفي ألمانيا، أنشئ مكتبٌ كبيرٌ في برلين لتدريس اللغات الشرقية ومنها العربية ولهجاتها المحلية.

وفي المجر، أنشئت سنة 1891 الكلية الملكية لعلوم الاقتصاد الشرقية وتدريس اللهجات ومنها العربية.

وفي بريطانيا، أنشأت جامعة لندن في أوائل القرن التاسع عشر فرعًا فيها لتدريس العربية الفصيحة والعامية. وقليل من العرب من لا يعرف عن «لورنس» الجاسوس البريطاني في المنطقة العربية، والذي كان يتقن لهجات القبائل العربية إتقانًا جيدًا، وهو بالتالي خرّيج هذه المدرسة البريطانية الاستشراقية وأحد أبرز كوادرها المشهورين.

ونتيجةً لهذا الاهتمام الكبير، كان لا بدّ من نتيجة؛ وقد توضّحت هذه النتيجة في كثرة المؤلفات الخاصة باللهجات العامية على أيدي خريجي هذه المدارس والجامعات من المستشرقين الذين لمعت أسماؤهم في سماء بلادهم نتيجة هذه الخدمة الجلّى. وكان من بينها على سبيل المثال:

لهجة بغداد العامية، للمستشرق «ماسينيون».

لغة بيروت العامية، للمستشرق «إمانويل ماتسون».

لغة مراكش العامية وقواعدها لـ «ابن سميل».

قواعد العامية الشرقية والمغربية لـ «كوسان دوبرسفال».

عامية دمشق لـ «براغستراسر».

قواعد العربية العامية في مصر لـ «ولهلم سبيتا».

اللهجة العربية الحديثة في مصر لـ «كارل فولرس».

العربية المحكية في مصر لـ «سلدن ولمور».

المقتضب في عربية مصر لـ «فيلوت وباول»([18]).

إزاء هذا الوضع، لم يعد أمامنا سوى العودة التاريخية إلى دراسة اللهجات عند العرب، وكيف استغلها الاستعمار في النفاذ إلى غاياته وأهدافه الرخيصة.

لقد سجّل علماؤنا القدماء، في الواقع، قدرًا كبيرًا من ظواهر اللهجات العربية القديمة، وتطرقوا إليها في بحوثهم اللغوية، وكانت دراستهم حولها داخلةً ضمن دراسة اللغة الفصحى؛ وتحدِّثُنا المصادر أن أقدم المؤلفات العربية التي اختصت اللهجاتَ بالذكر هو مؤلف يونس بن حبيب؛ واسمه «كتاب اللغات». وتبع هذا الكتاب عدةُ كتبٍ بنفس الاسم منسوبةٌ إلى أبي زياد الفراء، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وأبي الأنصاري، ويُنسب إليه أيضًا كتابٌ في لغات القرآن. ومن تلك الكتب أيضًا «كتاب اللغات» للأصمعي، و«اللغات» لابن دريد، و«ما ورد في القرآن من لغات القبائل»، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، و«كتاب اللغات» لابن بري... ونجد ذكرًا للهجات في معظم المعاجم العربية؛ ويمكن أن يعد «الجمهرة» لابن دريد مصدرًا مهمًا من مصادر دراسة اللهجة اليمنية. كما نجد عند سيبويه في «الكتاب» اهتمامًا بهذه اللهجات، فهو يذكر بعض الاستعمالات ويشير إلى موافقة بعضها للقياس على مذهب المدرسة البصرية.

هذا، ويبدو أن كثيرًا مما سجّله القدماء من مواد اللهجات العربية قد دخل ضمن دائرة الفصحى التي حدّدوها لها؛ ومعروفٌ أن جلّ المواد اللغوية الفصحى قد جُمعت من قبائل معينة، رضي عنها اللغويون العرب القدماء واستفصحوها، ولهذا فقد أغفلت دراسات العلماء القدماء كثيرًا من اللهجات العربية الأخرى، لأنها في نظرهم لم تكن فصيحةً؛ وبهذا لم تكتمل الصورة التي كانت عليها حال اللغة العربية إبان عصر الجمع والتدوين. ويبين الفارابي في كتاب «الألفاظ والحروف» القبائل التي أُخذت عنها اللغة واستفصحها العلماء، فيقول: «والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم أقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد... ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم»([19]).

هذا على صعيد العرب القدماء؛ أما على صعيد دراسة اللهجات العربية في العصر الحديث، فقد بدأت على أيدي المستشرقين وذلك ضمن النشاط الكبير الذي قام به هؤلاء للبحث في أحوال أمم الشرق وتراثها وحضارتها... وقد أخذ عددٌ من المستشرقين منذ القرن التاسع عشر يسجلون ويدرسون نماذج للهجات العربية الحديثة في مناطق مختلفةٍ من الوطن العربي؛ وقد حظيت أقطار الشمال الأفريقي، وسوريا وفلسطين، والعراق، بالجهد الأكبر من هذه الدراسات، وذلك لسهولة وصول الباحثين إليها وتكاثرهم فيها، وجاءت هذه الدراسات اللهجية في أنماطٍ مختلفة، فكان منها كتب المعاجم، ومنها الدراسات الوصفية، ومنها كتب تعليم اللغة للأجانب وكتب النصوص. ولعل أول أطلسٍ لغويٍ ظهر عن لهجات الوطن العربي هو ذلك الذي ألّفه «براغستراسر» (Bergstrasser) بعنوان «أطلس لهجات سوريا وفلسطين» نُشر في «لايبزيغ Leipzig» سنة 1915. كما أن من أهم العلماء الذين درسوا اللهجة العربية في منطقة سوريا والأردن كان المستشرق الفرنسي «كانتينو Cantineau»، حيث بدأ دراساته عن هذه المنطقة سنة 1934 بكتابه عن اللهجة العربية في تدمر: «Dialecte arabe de palmyre, Beyrouth 1934»، ومن أهم أعماله أيضًا كتابه عن لهجة حوران ملحِقًا بِه أطلسًا من ستين خريطة: «Les parlers arabes du Horan, Paris 1946».

ويُعَدّ المستشرق فالين Wallin من الرواد الأوائل الذين درسوا لهجات الجزيرة العربية، وذلك سنة 1848، حيث أصدر مجموعةً من النصوص نُشرت في مجلة المستشرقين الألمانية ZDMG عامي 1851 – 1852. كما أن المستشرق الهولندي «سنوك هرجرونية Snouck Hurgronie» من أهم المستشرقين الرحالة الذين زاروا بلاد العرب في القرن التاسع عشر، وقد سجّل أثناء إقامته في مكة بعض الأمثال والألغاز المكية.

ومن المستشرقين الأوائل الذين اهتموا بلهجة حضرموت وجنوب الجزيرة العربية «كارلو لاندبرج Carlo Landberg »، الذي أصدر فيما بين عامي 1901 و1913 كتابه الضخم عن لهجتَي حضرموت ودثينة، وله مؤلفاتٌ أخرى عن قبيلة عنزة، ومعجمٌ لألفاظ هذه القبيلة. كما أن من أشهر العلماء الذين درسوا لهجة عدن وحضرموت العالِم الإيطالي «روسي Rossi»، وقد كتب منذ سنة 1937 عدة مقالاتٍ عن اللهجة العربية في تلك الأصقاع. ومن المستشرقين الذين اهتموا بهذه المنطقة أيضًا «رودو كاناكس Rhodoo Kanakis»، وقد كتب عن لهجة ظفار الدارجة كتابًا صدر بين عامي 1908 – 1911.

لقد كانت معظم أعمال المستشرقين القدماء تقوم على جمع المادة ودراستها بطريقةٍ تقليدية؛ وكانت في معظمها تتميز بالخلط وكثرة الأخطاء. أما الآن، وفي كثير من الجامعات الأوروبية والأميركية، فنجد دراساتٍ متطورةً للهجات البلاد العربية؛ وتحظى الجزيرة العربية بقسطٍ كبيرٍ من هذه الدراسات لما في لهجاتها من اتصالٍ وثيقٍ بالعربية الأم([20]).

وانطلاقًا من أن الخليج العربي – ولعدة قرون – مثّل منطقةً ذات أهميةٍ تجاريةٍ عظيمةٍ، وذلك بسبب موقعه على واحدٍ من أعظم الطرق التجارية بين الشرق والغرب، فقد كان ذا أهميةٍ اقتصاديةٍ أكثر للأمم التجارية في العالم، حتى أن كثيرًا قد كتب عن أقطار الخليج من وجهة نظر هذه الأمم، أكثر مما كتب من وجهة نظر سكانه، نظرًا لارتباط تاريخه بالتدخلات الأجنبية.

وعندما تفجرت أرض الخليج العربي «بالذهب الأسود»، كان لا بد من وجود الشركات البترولية. والغريب في الأمر، أن تهتم شركات البترول بنشر الكتب المدرسية عن لهجات شرقي الجزيرة العربية، وقد أعدّت – حسب المزاعم – بواسطة شركات الزيت خدمةً لموظفيها. لذلك نشرت شركة نفط الكويت كتابًا مدرسيًا في طبعتين سنة 1951، وهو «A Handbook of Kuwaiti Arabic».

كما نشرت الشركة المشهورة «أرامكو» كتبًا مماثلةً منها:

»Spoken Arabic« (Dhahran, 1957), And »conversational Arabic« (Beirut, n.d.);

وأخرجت شركة بترول البحرين كتابًا بعنوان:

»A Handbook of the spoken Arabic of Bahrain« (n.d. or place);

وفي قطر أصدرت الحكومة كتابًا مدرسيًا صغيرًا:

»Spoken Arabic of Qatar« (K. Dajani, Beirut, 1956);

وقد أصدر أحد أعضاء البعثة الأميركية في الكويت كتابًا مدرسيًا هو:

»Spoken Arabic of the Arabian Gulf« (E.de Jong, Beirut, 1958).

وأكثر هذه الكتب علميةً، على حد قول «جونستون»([21])، هو دليل شركة نفط الكويت. وفي الطبعة الثانية – مع ذلك – بسطت فيه، لسوء الحظ، الرموز الصوتية الدولية المعدّلة التي استُعملت من أجل كتابة الحروف العربية باللاتينية؛ ولذلك لم يكن هناك تفريق بين الحاء والهاء ولا بين الصاد والسين، ولا بين الظاء والذال، ولا بين الطاء والتاء.

أما في الحقل المعجمي فقد أصدرت شركة أرامكو كتابها الذي ألف باللغة العامية: (Beirut, 1958) «Arabic word list English –». وكذلك الحال بالنسبة للمستشرق «موير J. Muir» في «بعض الاصطلاحات الملاحية في لهجة الكويت العربية». والمستشرق «فالين Wallin»، و«فتزشتاين Wetzstein»، و«سوسين Socin»، وكتاب «مايتسنر Meiszner» وهو عبارة عن دراسة قيمة – حسب تعبير جونستون – للهجة الريف في جنوب العراق. أما أكثر المواد أهميةً لهذه المنطقة على وجه الإطلاق فهي ما جمعه المستشرق الفرنسي «كانتينو Cantineau» في بحوثه «Etudes sur quelques parlers de nomades arabes d’orient»، وقد طُبع مرتين الأولى سنة 1936 والثانية سنة 1937.

والكتاب الذي نشره «هيس Hess»  يعطي أمثلةً على الملامح الصوتية والصيغ النحوية في لهجة عتيبة. إن أكثر الدراسات أهميةً في اللهجة العمانية، والتي ليست من نفس مجموعة لهجات شرقي الجزيرة، ولكنها مهمةٌ من الناحية المعجمية للهجات الساحل المعاهد، هي دراسة «راينهاردت Reinhardt» والتي طبعت في برلين سنة 1894، وكذلك معجم جاياكار Jayakar سنة 1889([22]).

هذا على صعيد شرقي الجزيرة العربية. أما على صعيد المغرب العربي ومصر وبلاد الشام، والتي استأسدت فيها القوى الاستعمارية لطمس الشخصية العربية وزعزعة أركانها عبر إحدى المقومات الأساسية لها والمتمثلة بـ«اللغة»، فقد برزت الدعوات المشبوهة التي تُعدّ من أهم «الأسافين» الاستعمارية في بناء اللغة العربية، وكان من بينها:

الدعوة الفرعونية في مصر.

الفينيقية في بلاد الشام/خاصةً في لبنان.

البربرية في المغرب/ خاصةً في الجزائر.

يضاف إلى ذلك «عبرنة» و«صهينة» فلسطين العربية من خلال المخطط الصهيوني الهادف إلى طمس وإذابة كل ما يمت إلى العرب بصلة.

والواقع أن عملية المجاهرة بدعواتٍ انعزاليةٍ من هذا النوع ليست مجرد آراء فردية، ولا طفرةً حدثت عن طريق الصدفة، وإنما كانت تندرج ضمن مخططٍ شاملٍ وبرنامجٍ أرسى جذوره فكرٌ استعماري، وأمد بكل الإمكانيات ليساعده على التغلغل والنمو والانتشار. وكانت أولى خطوات هذا البرنامج تستهدف الإسلام واللغة والعربية باعتبارهما عاملين أساسيين من عوامل وحدة الأمة العربية وانصهار أبنائها في بوتقةٍ واحدة. وهكذا بُذلت محاولاتٌ منذ أواخر القرن التاسع عشر لتحويل اللهجات العامية إلى لغاتٍ مستقلة، قائمةٍ بذاتها ومنفصلةٍ تمام الانفصال عن اللغة العربية. وكان دعاة هذا الاتجاه يعلنون، بصراحةٍ ودون مواربةٍ، عدم وجود أي رابطٍ بين الشعوب التي تسكن المنطقة العربية، وبالتالي فهم يطالبون بضرورة تحرير كل شعبٍ من هذه الشعوب عن طريق ثورةٍ أدبيةٍ شعبيةٍ من اللغة العربية، بحيث تكون هناك لغةٌ مصريةٌ يعبّر بها شعب مصر عن شخصيته المصرية الخاصة، ولغةٌ سوريةٌ يعبّر بها شعب سوريا عن شخصيته الخاصة أيضًا، وهكذا...

ويقودنا تتّبع الجذور التاريخية لهذه الدعوات إلى حقيقةٍ واضحةٍ هي أنها ولدت وتم الترويج لها على يد الاستعمار وعملائه من الإطارات المحلية وبعض المستشرقين الذين زُرعوا في الوطن العربي لخدمة الأهداف الاستعمارية وتحقيق أطماع الغزاة في الأرض العربية([23]).

ولعل أول كتابٍ ظهر في هذا المجال هو كتاب المستشرق الألماني «ولهلم سبيتا»، وكان يعمل في مصر في أواخر القرن الماضي مديرًا لدار الكتب المصرية. وقد أصدر هذا المستشرق كتابه سنة 1880، وسماه باسم «قواعد العربية في مصر» وقد كتبه باللغة الألمانية. وفي سبيل الوصول إلى قواعد اللغة العامية في مصر، عاش هذا المستشرق في حيٍ شعبي، لكي يستقي اللغة العامية من منابعها الأصلية، وأخذ يدوّن ما يسمعه بأذنه على كُم قميصه، خوفًا من أن يلاحظه أحد المتكلمين فيفقد طبيعته وحريته في الكلام([24]). وإن هذا الأسلوب في الواقع هو أسلوبٌ تجسسيٌ مخابراتي، ولا يُستبعد أن يكون «ولهلم سبيتا» أحد كبار الجواسيس الألمان المكلفين بمهماتٍ من هذا النوع في مصر.

وقد أعلن «ولهلم سبيتا» هدفه من كتابه بقوله: «وسأجازف بالتصريح عن الأمل الذي راودني طيلة مدة جمع مادة هذا الكتاب، وهو أملٌ يتعلق بمصر نفسها، ويمس أمرًا بالنسبة إليها وإلى شعبها يكاد يكون مسألة حياة أو موت؛ فكل من عاش فترةً طويلةً في بلادٍ تتكلم العربية، يعرف إلى أي حدٍّ تتأثر كل نواحي النشاط فيها بسبب الاختلاف الواسع بين لغة الحديث ولغة الكتابة». ويواصل المستشرق «سبيتا» هجومه على اللغة العربية الفصحى فيقول بأن هذه اللغة لا يمكن أن ينمو معها أدبٌ حقيقيٌ ويتطور، كما أن هذه اللغة الفصحى عبءٌ خطيرٌ على رجل الشعب العادي، لأنه إذا احتاج إلى كتابة خطابٍ أو تنفيذ وثيقةٍ فإن عليه أن يضع نفسه وهو مغمض العينين تحت يدي كاتبٍ محترف. ثم يتساءل «ولهلم سبيتا» بعد ذلك: لماذا لا يمكن تغيير هذه الحالة المؤسفة؟ ويجيب: «ببساطة لأن هناك خوفًا من تهمة التعدي على حرمة الدين، إذا تركنا لغة القرآن». ثم يقترح اقتراحًا عمليًا وهو أن تبقى اللغة العربية الفصحى «لغة الصلاة والطقوس الدينية فقط»([25]).

ومهما ظهر للعيان من خلافاتٍ ظاهريةٍ بين دول الغرب، فإن هناك اتفاقًا واضحًا بينها على إفساد وتخريب وتشويه اللغة العربية؛ من هنا ندرك بعمقٍ وجودَ مستشرقٍ إنكليزي بعد «ولهلم سبيتا» الألماني، وهو «وليم ويلكوكس» الذي شن حربًا شعواء على اللغة العربية، وقام بمحاولةٍ واسعةٍ لتشكيك المصريين فيها. واعتبر أن المصدر الأساسي لتخلّف المصريين هو اللغة العربية الفصحى، وقال إن اللغة المصرية لا علاقة لها باللغة العربية ولكنها على علاقة باللغة «البونية»، التي هي أساس لغة الحديث في مصر، وهي لغة دخلت مصر قبل أن تدخلها العربية الفصحى بألفي سنة، انحدرت إلى المصريين من «الهكسوس» الذين أقاموا في مصر نحو خمسمئة سنة. أما اللغة العربية الفصحى فهي في رأي «ويلكوكس» لغةٌ مصطنعة، يتعلمها المصري كلغةٍ أجنبيةٍ ثقيلةٍ في كل شيء، إن وصلت إلى الرأس فهي لا تصل إلى القلب أبدًا، وهي لغةٌ تقف عقبةً في سبيل تقدم المصريين، ودراستها نوعٌ من السخرية العقلية، حالت بين المصريين وبين الابتكار وقضت على الطلبة النابهين من المصريين والذين كان يرجى منهم نفعٌ كثير...

ثم يقول «ويلكوكس»: «إن دراسة العربية مضيعةٌ للوقت وموتها محقَّقٌ كما ماتت اللاتينية». ويمضي في تقديم النصائح إلى المصريين قائلًا: «ليمضِ المصريون عشر سنوات في التعليم باللغة التي يتحدثون بها، وعندئذٍ سيبزغ فجرٌ جديدٌ في حياتهم، وستتخلص الطبقات المثقفة من السخرة العقلية التي دامت أربعة آلاف سنة... كما سيتيح ذلك لمصر أن تأخذ مكانها بين أمم العالم المتقدمة في الأعمال وفي التجارة وفي المهن»([26]).

لقد ظلت هذه الآراء تتردد منذ أواخر القرن التاسع عشر، وطوال فترة الاحتلال الإنكليزي لمصر، الذي زرع مجموعةً من صنائعه وعملائه ومكنهم من السيطرة على أجهزة التعليم والثقافة والمؤسسات التربوية، لكي يمهد سبل الذيوع والانتشار لمثل هذه الدعوات الانعزالية الإقليمية السامة، وليقوموا بتربية جيلٍ كاملٍ من المصريين وإعدادهم ليكونوا حماة هذه الدعوة ومبشّريها.

وبالفعل، لاقت هذه الدعوة نجاحًا مهمًا في مصر. وكانت مجلة «السياسة» الأسبوعية المصرية من أهم المجلات التي تبنّت هذه الفكرة، وركّزت في أغلبية أعدادها على الفرعونية والترويج للأفكار الانعزالية الإقليمية، وذلك في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، حيث برز من كتابها «محمد زكي عبد القادر»، الذي نشر مقالًا في المجلة المذكورة عام 1930 قال فيه بأن «الأدب المصري هو أدبٌ محليٌ يصوّر الحياة المصرية والقومية المصرية وحدهما». وكذلك عبد الله عنان الذي كتب في ملحق «السياسة» عام 1932 يوضح القومية المصرية بقوله «إنها قوميةٌ أصيلةٌ، وجدت منذ أقدم عصور التاريخ واقترن اسمها بحضارةٍ من أقدم الحضارات...»([27]).

لم يقتصر الأمر على هذا الحد، وإنما لمعت أسماءٌ بارزةٌ في سماء مصر كانت بمثابة الإطار المحلي لهذه الدعوة الاستعمارية، ساهمت في خلخلة الوعي الوطني والقومي، ووجهت للأمة العربية سهامًا أليمة، نذكر منهم على سبيل المثال (مع أنّهم أعلام بارزون في وطننا):

 طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وبسببه قامت معركةٌ كبيرةٌ بينه وبين المفكر العربي الكبير ساطع الحصري بين الفرعونية والعروبة. وكذلك في كتابه «في الأدب الجاهلي»...

لويس عوض الذي ألّف ديوان شعر بالعامية المصرية هو «بلوتولاند».

محمد حسين هيكل، في كتابه «ثورة الأدب».

أمين الخولي في كتابيه «في الأدب المصري» و«مصر في تاريخ البلاغة».

وأحمد ضيف في كتاب «بلاغة العرب».

وغيرهم كثير من أمثال توفيق الحكيم ولطفي السيد واليهودي يعقوب صنوع...

وفي الوقت الذي كانت ترتفع فيه صيحة «الفرعونية» في مصر، كانت أختها «الفينيقية» في لبنان تغترف من نفس المنبع، وإلى نفس المصبّ تعود. وأصبح لهذه الدعوة رموزها في لبنان، يزعمون أن حضارتهم لا تمت إلى الحضارة العربية بصلة، وإنما هي حضارةٌ غربيةٌ في المذهب كما في المعتقدات والميول وأساليب العيش، مما يجعل منهم – على حدّ زعمهم – نوعًا من الجالية الغربية وسط شرقٍ متخلّف، ارتُباطهم بالغرب وليس بالأمة العربية. وقد أكد ذلك «بيار الجميل» في مقابلةٍ منشورةٍ في ملف «العمل الشهري» الكتائبية رقم 4، في شهر يونيو/ حزيران 1977 بقوله: «إن حضارة الغرب هي حضارتنا، وهذا ما يشكل جزءًا من الحقيقة اللبنانية. فعندما نقول بأن لبنان ملتقى الحضارتين الإسلامية والمسيحية، فلا نفهم لماذا يجب أن ننسلخ عن حضارتنا لكي نؤكد انتماءنا إلى هذه المنطقة من العالم».

كذلك يعلن المنظّر الكبير لحزب الكتائب أمين ناجي عندما يقول: «وَهِمَ المسلمون عندما اعتقدوا أن تخلّي المسيحيين عن الحماية الغربية هو تخلٍ عن الحضارة الغربية، وعن أسباب الاتصال الوجودي بالغرب. هذا التخلّي الذي يعني تنكّرًا لذاتها»([28]).

أليس بهذا القول صرح هرتزل وماكس نوردو وغيرهما من زعماء الحركة الصهيونية عندما اعتبرا أن الحضارة اليهودية هي امتدادٌ للحضارة الغربية في الشرق العربي المتخلف؟ كما أكدا بأن «الصهيونية هي رائدة المدنية الغربية، والرسول الأمين لنشر الثقافة والمدنية والحضارة الأوروبية في الشرق»([29])؟

وطبيعي أن لا تنجو اللغة العربية من محاولات تشويهها ومسخها على أيدي رموز هذا التيار، وكان للشاعر سعيد عقل دورٌ كبيرٌ في هذا المجال، عندما أنشأ مطبعةً هي الأولى من نوعها في الوطن العربي لكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية مع إضافة بعض الحروف إليها! وفي هذه المطبعة قام سعيد عقل بطباعة مجموعةٍ من كتبه ودواوينه الشعرية، ومن بينها ديوانه الشعري «يارا»، على غرار ما فعل أتاتورك بالحروف العربية التي كانت تُكتب بها اللغة التركية([30]).

إضافةً إلى ذلك، فقد عمد رفائيل نخلة إلى إصدار كتاب باللغة العامية هو «قواعد اللهجة اللبنانية السورية»، وكذلك شكري الخوري الذي ألّف كتابًا بلغة لبنان العامية يسمى «التحفة العامية في قصة فنيانوس». هذا فضلًا عن الدعوة إلى ما يسمى بـ«القومية اللبنانية» و«والقومية المارونية» و«التعددية» التي نظّر لها الدكتور شارل مالك، والدكتور كمال يوسف الحاج، والدكتور فؤاد افرام البستاني، والنائب اللبناني السابق أدوار حنين، ورينيه حبشي وغيرهم...

وكما كان هذا حال لبنان، كذلك عرفت سوريا خلال فترة الانتداب الفرنسي نشاطًا ملحوظًا للمستشرقين والمفكرين الذين عملوا في خدمة السياسة الاستعمارية، وفي مجال اللغة أيضًا.

في هذا المجال، يذكر زكي الأرسوزي أن مستشرقًا فرنسيًا ألقى محاضرةً  في دمشق عام 1925، أدلى في نهايتها بالنصيحة التالية: «إذا كنتم أنتم السوريون ترغبون في تحسين أحوالكم ونيل الاستقلال فعليكم أن تبرهنوا لفرنسا أنكم لستم عربًا. وأنتم تبرهنون لها عن ذلك إذا حوّلتم لهجتكم العامية إلى لغة الأدب والكتابة بدلًا من الفصحى ودوّنتموها بالأحرف اللاتينية. وعلى قدر تقدمكم في هذا المضمار تنالون من الاستقلال»([31]).

أما على صعيد النزعة البربرية في المغرب، خصوصًا في الجزائر، فإننا نشير إلى قول جان بول سارتر بأن الوضع الاستعماري يولد مستعمرين، كما يؤدي إلى وجود مستعمرين([32]). وفي هذا الإطار أيضًا أشار شارل العاشر (1757 – 1836) قائلًا: «بالنسبة لاحتلال الجزائر لم آخذ بالاعتبار سوى كرامة فرنسا، ولكن للحفاظ عليها فإنني لم أستشر سوى مصلحتها»([33]).

من هذا المنطلق كانت أولى توصيات الحاكم الفرنسي لجيشه الزاحف إلى الجزائر: «علّموا لغتنا وانشروها حتى تحكم الجزائر، فإذا حكمت لغتنا الجزائر فقد حكمناها حقيقة». وليست توصية هذا الحاكم الفرنسي إلا ترجمةً لتوصية سلفه المستعمِر الفرنسي نابوليون، الذي قال لبعثته الوافدة إلى مصر: «علّموا الفرنسية ففي ذلك خدمةٌ حقيقيةٌ للوطن»([34]).

حاول الاستعمار الفرنسي اقتلاع الإنسان الجزائري من جذوره، عبر حربٍ صليبيةٍ جديدةٍ ومتطورةٍ في القرن التاسع عشر. ولهذا فقد عاش الجزائريون – ككل العرب – خلال الاستعمار أزمتهم الكبرى مع لغتهم ضمن سياسة «فَرْنَسَةْ» الثقافة الجزائرية وإبادتها، وجعلِ لغة المحتل لغةَ البلاد. لم يرحم الاحتلال خزائن الثقافة، فنهب جنودُه الكثير من المخطوطات العربية القيمة، وأتلف بعضها، وذلك بشهادة رحالة ألماني هو «موريس فاغنر Maurice Wagner»، الذي أقام في الجزائر مدةً طويلةً وذلك بعد احتلالها بست سنوات، وشارك في الحملة على مدينة قسنطينة([35]).

انتهج الفرنسيون سياسة تخريب الإرث الثقافي في الجزائر، بغية خلخلة النفوس، وزعزعة الثوابت فيها، وتحويلها إلى عالم من التفتت والضياع. ولم تكتفِ فرنسا بتعليم الجزائريين لغتها وترسيخ ثقافتها في ذهنهم وأنفسهم، بل علمتهم أيضًا أنه ليس هناك شيءٌ خارج هذه الثقافة، وأن تاريخ الجزائر يبدأ سنة 1830 (أي عام احتلالها). ويذكر أن كلمة «عربي» كانت مذكورةً في كتب التاريخ عندهم مرةً واحدةً، وذلك عند ذكر هزيمة العرب في معركة «بواتييه» على يد «شارل مارتل»([36]).

ولعل تغريب الجزائريين عن اللغة العربية كان من أمضى أسلحة الاستعمار وأخطرها؛ حيث في أواخر القرن الماضي، وبالتحديد سنة 1893، زار الشاعر المصري أحمد شوقي الجزائرَ؛ وعندما عاد إلى القاهرة تناقلت الصحف قوله المشهور: «ولا عيب فيها (أي الجزائر) غير أنها قد مُسخت مسخًا. فقد عهدت مسّاح الأحذية يستنكف النطق بالعربية. وإذا خاطبتَه بها لا يجيبك إلا بالفرنسية»([37]).

أما بالنسبة للقبائل البربرية، فقد حاول الاستعمار الفرنسي انتزاع البربر من الإسلام وضمّهم إلى فرنسا، بتدابير متعدّدة الأوجه، من توعيتهم ومحاولة تنصيرهم، وتمييز أصلهم، وتثبيت قانونهم المحلي الذي كانوا يعتبرونه تقليدًا من تقاليدهم، واحتفظوا منه بما لا يتناقض والشريعة الإسلامية، ومنها أيضًا تقوية لغتهم ومحاولة إحيائها بالكتابة والنشر، لجعلها حاجزًا بين البربري والعربي. بينما أن البربرية في الغالب هي لغةٌ شفهية، وليست لغةً ذات قواعد وأسسٍ ثابتة، بل مجموعة لهجات مختلفٌ بعضها عن بعضها الآخر اختلافًا جذريًا. ولم يكن هناك لغةٌ بربريةٌ أمّ، تتفرع منها اللهجات كما هي الحال في اللاتينية.

ونظرًا لأهمية الموضوع البربري عند الاستعمار الفرنسي، فقد بدأ محاولات التعليم في بلاد القبائل البربرية قبل سائر المناطق في الجزائر. وأسس فيها الآباءُ والراهباتُ البيض ما بين 1873 و1880 مدارس متعددةً، قامت وراء توعية البربر محاولةً لفصلهم عن العرب ولإضعاف الجبهة المحلية. وكانت محاولات تنصيرهم بقيادة الكاردينال «لافيجري Lavigerie» إحدى وسائل تقريبهم من محيط الأوروبيين والمستوطنين. وأخذ المبشّرون المسيحيّون يوزّعون في بلاد القبائل البربرية الأناجيل باللغة البربرية المكتوبة بالحروف اللاتينية وذلك سنة 1930.

ومن محاولات الفرنسيين أيضًا أنهم أقدموا على كتابة اللهجات البربرية، كما ألفوا كتابًا في تاريخ آداب اللغة البربرية بحروف لاتينية. هذا فضلًا عن محاولات إبعاد البربر عن اللغة العربية، ثم عن اللغة البربرية نفسها لفَرْنَسَة بلاد القبائل نهائيًا.

وقامت ردات فعلٍ مختلفةٌ في وجه هذه المحاولات كان أبرزها تصدّي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لقضية اللغة البربرية ومحاولة تقويتها في الجزائر بمختلف الوسائل قائلًا: «إن القبائل مسلمون عرب ، كتابهم القرآن يقرأونه بالعربية ، ولايرضون بدينهم ولا بلغته بديلًا»([38]).

وفي هذا الإطار، يذكر الشاعر القبائلي المعاصر مالك أوري أنه أُرسل إلى المدرسة لينسى لغته وليتعلم الفرنسية قبل كل شيء. ثم يقول إنهم كانوا يدرّسونه، فضلًا عن الفرنسية، اللاتينية واليونانية، ولم يدرّسوه لغته([39]).

ومما لا شك فيه أن العلماء والمشايخ والجوامع لعبوا دورًا مهمًا في الحفاظ على اللغة العربية وثروتها، والتصدّي لمحاولات مسخها ونسفها، إضافةً إلى المثقفين الوطنيين والمفكرين، تحت راية «المقاومة الثقافية»، كردٍّ طبيعيٍ ومشروعٍ على محاولات «الفَرْنسَة» والتغريب.

أما في فلسطين المحتلة، فطبيعي أن لا تخرج القوانين الصهيونية حيال العرب هناك عن الطابع الاستعماري الوقح، باعتبار أن الحركة الصهيونية هي حركةٌ سياسيةٌ عنصريةٌ توسعيةٌ استعماريةٌ استيطانية. وتنحصر مهمتها المركزية في سلخ الأجيال العربية الصاعدة عن تراثها وتاريخها وآدابها ودينها وإحساسها الوطني والقومي.

إضافةً إلى ذلك، يذكر الصحفي الفلسطيني حبيب قهوجي([40]) أنه في المناطق المحتلة عام 1967، فقد أطلقت سلطات الاحتلال العسكري، منذ الأيام الأولى للاحتلال، يدها في مناهج التعليم العربية، تغيِّرها وتشوِّهها وتملؤها بالمغالطات التاريخية التي تخدم أهدافها التوسعية والعدوانية. وقد زحفت سلطات الاحتلال في الإجراءات التي اتخذتها على المناهج والكتب والمعلمين والطلاب والأبنية المدرسية بشكلٍ تدريجيٍ تعبث فيها فسادًا وتخريبًا، وتسوم المعلمين والطلاب أنواع الاضطهاد والملاحقة والاعتقال الإداري والسجن والطرد خارج الوطن. وأفرغت المناهجَ المدرسية من محتواها الوطني والقومي بحجة وجود «مواد تحريضية ومعادية لإسرائيل».

ويضيف حبيب قهوجي قائلًا: وقد تعرضت مدينة القدس لأبشع هجمةٍ تخريبيةٍ استهدفت الحياة الثقافية، والتعليم بخاصةٍ فيها، بعد إعلان سلطات الاحتلال عن ضم المدينة نهائيًا إلى «إسرائيل». وقد أُلغيت نهائيًا مناهج التعليم العربية التي كانت تدرَس في مدارس القدس، وتم استبدالها بمناهج جديدةٍ تخدم أهداف المخطط الصهيوني لتهويدها، وثبت لدى الطلبة الذين يتلقون هذه المناهج روح العدمية القومية والخنوع والاستسلام للأمر الواقع.

ويصف الكاتب الفلسطيني أيضًا «سلمان ناطور» الوضع الذي يعانيه المثقف الفلسطيني في ظل السلطات الصهيونية فيقول: «إننا نعيش واقع حصارٍ مستمر. نحن نكتب بين أسوار سجنٍ كبير، والحرية المعطاة لنا هي حريةُ التنقل من زنزانة إلى زنزانة. إن الحديث عن حرية التنقل بين الزنازين على مسامع السجناء هو أقرب إلى النفس، ويبدو واقعيًا، خصوصًا إذا كانت فترة الاعتقال غير محدودةٍ زمنيًا، ويعلن عنها أنها إلى ما لا نهاية. والحديث عن حرية التنقل خارج أسوار السجن يبدو بعيدًا عن الواقع، وأحيانًا يُسمع كأنه الهذيان والمستحيل والطوباوية»([41]). فلولا الدخلاء والغاصبون لما كان هناك لغةٌ دخيلةٌ أو ألفاظٌ دخيلةٌ على اللغة الأم. وعندها، سواء دخلت هذه الألفاظ أو هذه اللغة القومية بواسطة الدخلاء الأجانب أو عبر «الطابور المحلي»، فلا فرق، لأن الهدف واحدٌ في النهاية.

وعلى هذا الأساس، كان لمجامع اللغة العربية، وللمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في جامعة الدول العربية، دورها المهم على هذا الصعيد، والتي تُعد، بكل صدقٍ، بمثابة شموعٍ مضيئةٍ في ليلنا العربي الأسود. وهي طليعة المؤسسات في الوطن العربي التي عملت على تأمين سلامة اللغة وتيسيرها لتكون أداة ربط الأمة بماضيها، والسير بها في طريق النمو والتقدم، عبر سبل التعبير السليم، والتفاهم البناء، والترابط الوثيق، لترسيخ كينونة الأمة ووحدتها ومناعة عزتها وحضارتها وتراثها.

من خلال ذلك، يجب أن لايُفهم أننا ضد اللغات الأجنبية كلغاتٍ فليس للعلم لغة واحدة، وليس حكرًا على أمةٍ دون أخرى. وإن إتقان لغةٍ أجنبيةٍ واجبٌ لابد منه لمتابعة التقدم العلمي. ولكن شتان ما بين إتقان اللغة الأجنبية وبين استخدامها بديلًا عن اللغة القومية. إن في إتقان اللغة الأجنبية رفدًا للثقافة ودعمًا لها في كل ميدان من ميادين العلم، وأما استخدامها بديلًا فعزلٌ للغة القومية ووأدٌ لها([42]).

ورغم كل المحاولات، أثبتت اللغة العربية مناعتها ووجودها؛ ولولا ذلك لما اضطر المستشرقون في مؤتمرٍ لهم عُقد في بلاد اليونان إلى إصدار قرارٍ منصفٍ يحمل كثيرًا من الدلالات والأبعاد، جاء فيه: «إن اللغة العربية الفصحى هي اللغة التي تصلح للبلاد الإسلامية والعربية للتخاطب والكتابة والتأليف، وإن من واجب الحكومات في هذه البلاد أن تُعنى بنشرها بين الطبقات الشعبية لتقضي على اللهجات العامية التي لا تصلح لغةً أساسيةً لأممٍ تجمعها جامعة الدين والعادات والأخلاق»([43]).

بعد هذا العرض، نستطيع القول إن جميع المحاولات التي استهدفت – ولا تزال – اللغة العربية للنيل منها والحط من قيمتها بهدف القضاء عليها كلغةٍ موحَّدةٍ وموحِّدة، هي بحد ذاتها محاولاتٌ شعوبيةٌ بثوبٍ جديد، تسعى للإساءة إلى القرآن الكريم، والإساءة إلى الأمة العربية بقصد إحداث الهزات في كيانها، بغية هدمها والقضاء على كل ما تحمله من تراث وقيم وحضارة وتاريخ، عبر أحد أبرز مقوّمات القومية والتي تتمثل في «اللغة».

وإن كانت هذه المحاولات شعوبية الاتجاه والأسلوب، فإنها أيضًا «تتريكية» الهدف، واستعمارية القصد والنتيجة؛ وكلها وجوهٌ لعملةٍ واحدةٍ هدفها زعزعة الشخصية العربية وتسميم وعي الناشئة وعقولها وتضييعها لكي تسهل السيطرة عليها وتوجيهها في الاتجاه الذي تريده قوى الأعداء.

زيادةً على ذلك، فإن هذه المحاولات هي أيضًا ضربةٌ للتراث والحضارة والقيم العربية التي صمدت آلاف السنين في وجه كثير من الهزّات والخضّات المتتالية، وبرهنت بما لا يقبل الشك أن تشويه اللغة وإدخال السموم إليها هو بمثابة المقدمة للقضاء على الجسم العربي كله. إذ إن هذه التشويهات والسموم ليست «فيتامينًا» مقويًا لهذا الجسم، بل على العكس هي سرطانٌ خبيثٌ يبغي إضعافه وشلّه تمهيدًا لإتلافه وموته. ولم نسمع مرةً أن سرطانًا دخل جسمًا من الأجسام وكان عاملًا في مناعة هذا الجسم وتقويته وتحديه للأمراض. وبما أنه يصعب على جسم بشري أن يعيش بدون دمٍ ودورةٍ دموية، فإن اللغة العربية الفصيحة هي ذلك الدم وتلك الدورة الدموية التي تضمن للجسم العربي استمراريته وديمومة عطائه.

كما أن أصحاب هذه المحاولات، إن كانوا ينتمون إلى بلاد العرب أم إلى الأجانب، ليسوا إلا أدواتٍ وأبواقًا لخدمة سياسةٍ معاديةٍ للعرب والعروبة والأمة العربية والقومية العربية، وكل ما يمتّ إليها من لغةٍ وعاداتٍ وتقاليد وقيمٍ وتراثٍ وحضارةٍ وتاريخٍ ومصير. ولا هدف لهذه المحاولات سوى تكريس مفاهيم التجزئة والتشتت والانعزال بغية تقزيم الأمة العربية، التي أثبتت عظمتها عبر التاريخ، وهدم أحلامها. فمهمة أصحاب هذه المحاولات شبيهةٌ بمهمة «أطباء التخدير»، إلا أن هدفهم ومصلحتهم تختلف في كثير من الأحيان عن أولئك الذين يقومون بعمليةٍ تخديريةٍ لجسد مريض بهدف شفائه وتخليصه من أدرانٍ وأمراضٍ تسللت إليه لإهلاكه. بيد أن مهمة هؤلاء تأخذ الطريقة العكسية باعتبارها عملية حقن الجسد بإبرٍ مورفينيةٍ وتخديره بغية القضاء عليه وإفنائه، وليس بقصد شفائه. وهذا ما يعتبر جريمةً كبرى عندما تتعلق القضية بحياة شخص. فكيف إذا كانت الحال متعلقةً بحياة أمةٍ بكاملها؟ ويبقى «ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً» في النهاية.

فاللغة العربية هي حصنٌ منيعٌ يختزن الكنز المقدس، أو «بنك المعلومات» الواجب حراسته بيقظةٍ وحذرٍ وتحسّبٍ من كل طارئ. ونستطيع القول بأنها وطنٌ ذو حدودٍ لها صفة القدسية، وكل لفظةٍ أجنبيةٍ تدخلها هي بمثابة «جاسوس» له مهمةٌ واضحةٌ دقيقةٌ ومحددة، وليس أقلها تهديد سلامة الوطن وبالتالي الأمة، وزعزعة الأركان واهتزاز الأسس. وبقدر ما يكون عنصر الحماية يقظًا، بقدر ما يبقى البنيان متماسكًا، صلبًا، وبعيدًا عن كل هزةٍ وعاصفة، حيث يمثل هذا العنصر دورًا طليعيًا، كما أنه لا يقتصر على فئةٍ من الناس دون غيرها، إلا أن للمفكرين والمثقفين مسؤوليةً رياديةً في هذا المضمار.

إن اللغة العربية هي جوهرةٌ صافيةٌ، لا يؤثر عليها غبار المارقين ولا مثالب الأعداء، إذا أحيطت بالعناية الفائقة، ولا يمكن أن يعتريها الصدأ والشوائب القاتلة. ولكن الجدير ذكره هنا، فليس أخطر على أمةٍ من الأمم من أن تجد نفسها وقد نُخرت من الداخل؛ وما أسلوب التسلل والتخريب والاستيلاء على العقول والأفكار والعواطف وإعادة صياغتها وتشكيلها من جديد، بحيث تصبح مهيأةً تمامًا لاستقبال وتبنّي المبادئ والمثل التي تحقق أهداف القوى المعادية، في هدوء وبلا نقطة دمٍ واحدة، إلا أحد الأساليب الخبيثة التي عمدت إليها قوى الأعداء التاريخية للنيل من وحدة الأمة العربية وتراثها وأصالتها.

وعندما فشلت في تحقيق الهدف عبر سلاحها العسكري، ثم الاقتصادي، ونجحت نوعًا ما في المجال الديني، فلم تدّخر جهدًا لإشهار سلاحٍ هادئٍ في ميدان الفكر والثقافة؛ ولم تكن معركة «اللغة العربية» إلا أبرز جولات هذه المعركة وأخطرها مصيريًا.

وإذا كانت «المعركة العسكرية» تستأهل الاستنفار والاستعداد والحشد، فكذلك هي حال «المعركة الفكرية» (واللغة عامودها الفقري) فإنها تستأهل الاستنفاز والاستعداد والحشد، إضافةً إلى «عنصر الهجوم» أيضًا، حيث يعتبر «عنصر الدفاع» في معركة كهذه عاملًا مقصّرًا، وربما غير فاعلٍ مطلقًا ونافٍ لصفته أيضًا.

فلنكن على مستوى المواجهة والتحدي لكي لا نخسر أصالتنا ووجودنا ومصيرنا، لأن الأمة التي تهمل لغتها هي أمةٌ تحتقر نفسها وتفرض على نفسها التبعيّة الثقافية. وإيماننا نحن المثقفون العرب بأنّ تعلُّم اللّغة العربية وتعليمها بشكلٍ سليمٍ ليست مهنةً أو قضيةً تعليميةً فحسب، بل هي رسالةٌ وقضيةٌ وطنيةٌ وقوميةٌ أيضًا.

وإن عدم التصدّي لمحاولات النيل من لغتنا القومية الأم، واعتبارها معركةً مصيرية، هو بحدّ ذاته مشاركةٌ مباشرةٌ في وأد اللغة العربية عبر مسخها ومسحها من الوجود.

--------------------------

[1] - إدوارد هاليت كار، ما هو التاريخ، ترجمة بيار عقل وماهر كيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، كانون أول، 1976، ص 27.

[2] - د. منذر معاليقي، «القومية العربية والطوائف الدينية في عصر النهضة»، مجلة الفكر العربي (تصدر عن معهد الإنماء العربي في بيروت)، عدد 39 – 40، يونيو/ حزيران - أكتوبر/ تشرين الأول 1985، ص 277.

[3] - د. مازن المبارك، اللغة العربية في التعليم العالي والبحث والعلمي، دار النفائس – مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1981، ص 62.

[4] - د.محمد مندور، في مقدمته لكتاب منهج البحث في الأدب واللغة، تأليف الأستاذين «لانسون» و«ماييه»، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، فبراير/ شباط 1982، ص 15.

[5] - د. محمد عمارة، الإسلام والوحدة القومية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979، ص 160.

[6] - نوري حمودي القيسي، في كلمته الإفتتاحية للندوة الفكرية حول «اللغة العربية والوعي القومي»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، إبريل/ نيسان 1984، ص 21.

[7] - د. صالح أحمد العلي، اللغة العربية والوعي القومي، المرجع السابق، ص 18 وص 166.

[8] - محمد جميل بيهم، عروبة لبنان، دار الريحاني، بيروت، 1969، ص 73.

[9] - د. مازن المبارك، اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي، ص 11.

[10] - د. أحمد مطلوب، «من خصائص اللغة العربية» (بحث في الندوة الفكرية الخاصة بـ«اللغة العربية والوعي القومي»)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1، 1984، ص 115 – 117.

[11] - ساطع الحصري، في اللغة والأدب وعلاقتهما بالقومية، مركز دراسات الوحدة العربية، «سلسلة الأعمال الكاملة رقم 11»، بيروت، ص 29.

[12] - ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار للنشر، بيروت، 1977، ص 373.

[13] - د. أحمد أبو مطر، «أفكار حول مواجهة النزعة الانعزالية في الأدب»، مجلة الفصول الأربعة (تصدر عن رابطة الأدباء والكتّاب والفنانين بالجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية)، العدد 28، مارس/ آذار 1985، ص 146.

[14] - محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص 119.

[15] - من مقدمة د. أحمد محمد الضبيب لكتاب ت.م. جونستون، دراسات في لهجات شرقي الجزيرة العربية، الدار العربية للموسوعات، بيروت، الطبعة الثانية، 1983، ص 5.

[16] - سليمان موسى، الحركة العربية، دار النهار للنشر، بيروت، سنة 1977، ص 23.

[17] - أبو زيد عبد الرحمن محمد بن خلدون، المقدمة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1956، ص 1046.

[18] - حاتم صالح الضامن، في مقالة بعنوان «العامية والفصيحة»، من الندوة الفكرية الخاصة بـ «اللغة العربية والوعي القومي»، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 222.

[19] - د. أحمد محمد الضبيب، في مقدمته لكتاب جونستون، دراسات في لهجات شرقي الجزيرة العربية، ص 10.

[20] - المرجع نفسه، ص 12 – 18.

[21] - جونستون، دراسات في لهجات شرقي الجزيرة العربية، ص 37.

[22] - المرجع نفسه، ص 12 – 18.

[23] - فوزي البشتي، «الانعزالية والإقليمية كما ظهرت في الأدب العربي المعاصر»، مجلة الفصول الأربعة، العدد 28، مارس/ آذار، 1985، ص 194.

[24] - المرجع نفسه، نقلًا عن رجاء النقاش، الانعزاليون في مصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1981.

[25] - فوزي البشتي، المرجع نفسه، ص 195.

[26] - يراجع في هذا الموضوع الكتاب القيّم للدكتورة نفوسه زكريا، الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، القاهرة، دار المعارف، 1964. وكذلك كتاب رجاء النقاش، الانعزاليون في مصر، المطبوع في بيروت سنة 1981.

[27] - فوزي البشتي، مرجع سبق ذكره، ص 193.

[28] - أمين ناجي، شرعة من أجل ميثاق وطني جديد، المطبعة الحديثة، بيروت، 1979، ص 93.

[29] - أكرم زعيتر، القضية الفلسطينية، القاهرة، 1955، ص 44.

[30] - مجلة الفصول الأربعة، العدد 28، مارس/ آذار، 1985، ص 201 و244 – 245.

[31] - زكي أرسوزي، المؤلفات الكاملة، المجلد الثالث، دمشق، 1974، ص 41.

[32] - Tayeb belloul, Les Algériens en france (Editions Nationales algériennes), Alger 1956, p. 18.

وكذلك مقدمة جان بول سارتر لكتاب:

Frantz fanon, les damnes de la terre (éditions imaspero), paris 1961, pp. 9 – 26.

[33] - Colette et francis jeanson, l’algérie hors la loi (éditions du seuil), Paris, 1955, pp. 29.

[34] - د. مازن المبارك، اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي، دار النفائس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981، ص 11.

[35] - الدكتورة نور سلمان، الأدب الجزائري في رحاب الرفض والتحرير، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1981، ص 53.

[36] - Ahmed Taleb Ibrahimi, De la décolonisation à la révolution culturelle (Société nationale d’édition et de diffusion), alger 1973, pp. 12-13.



راجع أيضًا: محاضرات الندوة اللبنانية رقم 4 سنة 1967 حول «التربية والثقافة في الجزائر» لأحمد طالب، ص 9-23.

[37] - صالح خرفي، شعراء من الجزائر، منشورات معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1969، ص 10-11. وقد علق على هذا القول بعد سنوات الإمام عبد الحميد بن باديس في خطبته التأبينيّة للشاعر حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، وذلك في مهرجان أقيم بهذه المناسبة في نادي الترقي في فبراير/شباط 1944.

[38] -  محمد البشير الإبراهيمي، عيون البصائر، القاهرة، دار المعارف، سنة 1963، من مقالة عنوانها: «اللغة العربية في الجزائر عقيلة حرة ليس لها ضرّة»، ص 214-215.

[39] - Malek Ouary, poèmes et chants de kabylie (librairie saint-germain-des-prés), paris 1972. pp. 13.

كما يُعتبر كتاب الدكتورة نور سلمان الأدب الجزائري في رحاب الرفض والتحرير مرجعًا مهمًا في هذا الموضوع.

[40] -  حبيب قهوجي، في مقالة عن «الإجراءات الإسرائيلية ضد الثقافة العربية في فلسطين»، مجلة الوحدة، العدد 21، حزيران (يونيو) 1986، ص 76-84.

[41] -  المرجع نفسه، ص 80. نقلًا عن كلمة أُلقيت في ندوةٍ حول «القصة القصيرة والرواية»، نظمتها لجنة الطلاب العرب في جامعة القدس بتاريخ 31/5/1984، نشرتها صحيفة الاتحاد 22/6/1984.

[42] -  د. مازن المبارك، اللغة العربية...، مرجع سابق، ص 34.

[43] - حاتم صالح الضامن، العامية والفصيحة، مرجع سابق، ص 224.