البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

أثر الإسلام والمتنبي في شعر المستشرق الألماني غوتة

الباحث :  د. عبد الرؤوف خريوش
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  13
السنة :  السنة الخامسة - شتاء 2018م / 1439هـ
تاريخ إضافة البحث :  February / 27 / 2018
عدد زيارات البحث :  3463
تحميل  ( 278.096 KB )
ملخص البحث

يتناول هذا البحث أثر أحد اكبر أدباء الشرق عامة والعرب بخاصة، وهو المتنبي في تكوين شخصية غوته الأدبية، فبعد استقراء بعض النصوص الأدبية المترجمة عن غوته تبين للباحث أن أثر الأدب العربي كان واضحا إلى جانب أثر الشاعر حافظ الشيرازي في أدب غوته، فقد تأثر بشخصيات تاريخية ودينية أخرى كشخصية محمد صلى الله وعليه [ وآله ] وسلم وشعراء الشعر الجاهلي كامرئ القيس، والإسلامي كقيس بن الملوح، والعباسي كالمتنبي، وقد أسهم هؤلاء في تشكيل سمات غوته الذي فتن في بسالة العرب وفروسيتهم وقصص عشقهم إلى جانب إعجابه بموروثهم المتماسك المرتبط بعاداتهم المتوارثة مما دفعه إلى دراسة آداب العرب وفكرهم. فقد كان لشعر المتنبي وسيرته وحياته أثر في أدب غوته، ويمكن ملاحظة ذلك في أعماله: الديوان الغربي الشرقي وفاوست وكتاب الفردوس وزليخا وغيرها.  وهذا يدلل على شخصية المتنبي التي شغلت الدارسين والباحثين والمستشرقين والرحالة، وهذا البحث محاولة الوقوف على أثر شعر المتنبي في أعمال (غوته).

مقـدمــة

الاستشراق (علم العالم الشرقي) يمثل الدراسات التي أقيمت حول المجتمعات الشرقية من قبل المستشرقين الغربيين، فقد شكل بمفهومه وتعدّده، نقطة صدام ثقافي بين الشرق والغرب، رغم الصلات التاريخية التي قامت بينهما من خلال بوابات أربع هي: صقلية والحروب الصليبية والقسطنطينية والأندلس، فقد ارتبط الاستشراق بمفاهيم فكرية درست الصورة التي شكلها المستشرقون عن الشرق بعامة والعربي والإسلامي بخاصة، تمثلت معظمها في الصورة السلبية التي كونها مجموعة من الرحّالة الغربيين من أمثال  (إدوارد لين)، و (رتشرد بورتون)، و(لورنس) الشهير  بـ(لورنس العرب) فقد نقلوا للغرب صورة سلبية عن نمطية الإنسان العربي الشرقي، بقيت ماثلة في عقلية الإنسان الغربي ردحا من الزمن.

ومع مرور الوقت قام بعض المستشرقين بزيارة الشرق وتعايشوا مع المجتمعات الشرقية فوقفوا على نمطية الإنسان العربي بكل ما تحمل، أو درسوا ثقافته وأدبه بموضوعية، وبذلك خالفت النظرة التعميمية التي كانت سائدة من قبل، وكونها أصحاب الاتجاه السلبي، فدرسوا الأدب العربي والبرديات والشعراء، ومن هؤلاء المستشرق (بلاشير) و  (رينولد نيكلسون)، و(تشارلز أدم) والشاعر الألماني (فولف جانج غوته) ـ موضوع البحث ـ الذي درس آداب الشرق وفكره، وانغمس فكريا وروحيا في الدين الإسلامي، فكان للشرق الحالم بكل ما فيه أثر في تكوين شخصيته، التي انعكست جليا في شعره وأدبه، فَعُّد نموذجا خلابا للصلات الثقافية بين الشرق والغرب.

ولأن الأدب تلاقح ثقافات مختلفة بين أمم وحضارات، يأتي هذا البحث ليعمق الصلة بين فكرين سادا قروناً من الزمن، فكر مثل الشرق بكل ما فيه من ثقافات وحضارات، وغرب رصد تطور الإنسان الغربي إلى حضارة اليوم المسماة (الليبرالية)، فالبحث يتحدث عن أحد كبار مثقفي الغرب وأدبائه، إنه الشاعر الألماني (غوته). من هنا جاءت أهمية البحث الذي ينساب مع دراسات سابقة مثلت غوته، لكن من زاوية محددة رسمت ركنا من أركان الثقافات التي أثرت في غوته.

أما هدف البحث فهو معرفة مدى اثر الشرق بما فيه في ثقافة غوته وتكوينه الثقافي. ولأن البحث اعتمد على الترجمات، كان لا بد من منهج ينساق مع البحث، ولعل أفضلها التكاملي الذي يتحدث عن تاريخ الثقافة المؤثرة بغوته؛ ومقارن، ليقارن بين ثقافات اتسمت بالتضاد حينا وبالوازع الديني حينا آخر، والوصفي القائم على تحليل مجمل القصائد التي تظهر مدى أثر ثقافة الشرق وبخاصة الشعرية والدينية في ثقافة غوته وتكوينه الفكري.

مفاتيح البحث:

 الاستشراق: وهو كل ما يصدر عن الغربيين والأمريكيين من إنتاج فكري وإعلامي وتقارير سياسية واستخباراتية حول قضايا الشرق. 

الأدب المقارن: دراسة التأثيرات الأدبية التي تتعدى الحدود اللغوية والجنسية والسياسية.

 أدب الرحلات: مجموعة الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف حول رحلاته في بلاد مختلفة، فيصف ما يراه من عادات وسلوك وأخلاق.

 الترجمة: إعادة كتابة موضوع معين بلغة غير اللغة التي كتب بها.

 التأثير: تأثير مؤلفات أديب معين في روح عصره أو في الآخرين كتأثير أديب أو مؤلفاته  في أديب آخر.

 التأثر: أن يتأثر القارئ بالعمل الأدبي دون أن يلغي عنصر الإبداع عنده؛ أي ألا يأخذ العمل الأدبي كما هو، إنما يتأثر به ويضيف ما تأثر به إلى عناصر الإبداع والخيال عنده؛ فيصوغ تجربته، أو عمله بإبداع وإتقان.

غوته والشرق:

تعرَّف غوته (1749 – 1832) إلى الشرق وأدبه بعد سفره إلى إيطاليا، إذ أخذ يبحث  بين قصائد شعراء العرب القدماء، وكتب الرحلات والمستشرقين الذين ولجوا الشرق للتعرف عن كثب إلى حياة الشرق بعامة والعرب بخاصة، فكان لقصص ألف ليلة وليلة، وأصحاب المعلقات، والأمثال، وشخصية الرسول الكريم والدين الإسلامي الأثر الأكبر في أعمال (غوته) الأدبية والشعرية. والمطلع على ترجمات أعمال غوته يلاحظ، بوضوح، أثر ذلك في شعره؛ فشخصيات زهير وامرئ القيس والمكان (الصحراء)، وتأبط شرا والمتنبي، وملامح أبي تمّام والبحتري، وفلسفة أبي العلاء، مثّل كل ذلك المرايا التي رأى غوته نفسه فيها.

ولم يكن واضحا بداية الأمر أثر العرب في كتاب غوته( الديوان الشرقي) فالدراسات الغربية وبخاصة كتاب (فرتس) لم يأتِ على شيء يذكر من آداب العرب في غوته (1). ومع مرور الوقت كشفت دراسات كثيرة عن مضمون كتاب الديوان الشرقي لغوته، والتي أظهرت مدى تأثر غوته بهذا الفضاء المتسع من الأدب عبر القرون، إضافة إلى دراسات  وترجمات في الاستشراق، بينت دور العرب في الآداب الأوروبية الحديثة(2).

إن أثر آداب العرب في أعمال غوته ما كان له أن يكون لولا إرادة غوته في خوض غمار البحث في عباب هذا الأدب على مدى قرون عدة، كما أن هناك أسبابا أخرى دفعته لذلك. (فيوهان فولف جانج فون غوته) نموذجاً خلاباً للصلات الثقافية بين الشرق والغرب في أواخر القرن الثامن عشر واوائل القرن التاسع عشر الميلاديين، فقد كان الرجل واسع الثقافة بفضل أسرته، إذ انتقلت إليه عدوى قراءة "التوراة" من والده فكان صاحب أفضل " برنامج تعليمي" وضعه له، لأنه ضمّ أكثر العلوم الإنسانية وشيئاً من علوم النبات، والديانات، واللغات الحية (الفرنسية والإنجليزية والإيطالية) وبعض اللغات القديمة (اللاتينية والإغريقية)، فضلاً عن العبرية التي تعلمها، و العربية التي حاول أن يتعلمها فألم بشيء منها(3). يضاف إلى ذلك أنه اطلع على الآداب الشرقية كالهندية والفارسية التي كان لها أثر واضح خاصة في ديوانه" الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" الذي نقله إلى العربية الدكتور عبد الرحمن بدوي.

لقد حدّد غوته نفسه مصادر ثقافته الشرقية بقوله " علاوة على حافظ (حافظ الشيرازي).. فقد أعرنا عموماً الشعر وغيره من الآداب الشرقية أذناً صاغية، وذلك بدءا من المعلقات والقرآن الكريم وانتهاء بجامي (عبدالرحمن الجامي الشاعر الفارسي الصوفي)، والشعراء الأتراك(4).

كما أن غوته كان يحب الرحّاله ويفيد منهم، فقد رحل إلى الشرق رحلة روحية فكرية اغترابية كانت عميقة الأثر في نفسه بعيدة التأثير، فنظم عام 1814م قصيدة بعنوان " الهجرة" كتبها باللاتينية واللفظ العربي، ودعا نفسه فيها إلى الهجرة إلى الشرق الطاهر الصافي، لأسباب أهمها:

نشدان الأمن والهدوء والاستقرار في الشرق بعد أن تزعزع أمن أوروبا واضطربت أحوالها بسبب الحروب الأوروبية في القرن التاسع عشر.

سيادة المذهب الرومانسي في أوروبا وانحسار الكلاسيكية ذات المقياس العقلي الثابت تقريبا.

بدء ظهور النزعة، إلى الأدب العالمي وتوجّه بعض الأدباء إلى أن يجعلوا من ألمانيا مركزاً لهذا الأدب لعالمي، وكان غوته من أبرزهم.

اهتمامه الشديد بالظواهر الدينية، إذ كان مجمل نشاطه يقوم على دوافع ومعتقدات دينية، وظلّ يبحث عن الظاهرة الأولية للدين في الأديان المختلفة، ولقد جال في " الديوان الشرقي" جولات متفاوتة في أربعة أديان: الإسلام والمسيحية واليهودية والمجوسية".

ميل حركة " التنوير" في عصره إلى التسامح وتبين أهمية الأديان الأخرى غير المسيحية والإسلام بخاصة، إذ كان إلمامهم به أكثر من إلمامهم بديانات الهند والشرق الأقصى.

صلة غوته الروحّية بالإسلام، فقد كان يكن احتراماً كبيراً يتمثل في إنبهاره بالقرآن الكريم وإعجابه بالرسول (ص)، وقد أبان هو نفسه أشياء من هذا في سيرته الذاتية " شعر وحقيقة" التي ذكر فيها أنه كان يبحث، منذ صباه، عن ديانة تناسبه، فلا عجب إذن أن يقول إنه " لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم" وأن يقول" إذا كان الإسلام معناه التسليم لله، فعلى الإسلام نحيا ونموت".

إحساسه الكبير بقيمة القرآن الكريم اللغوية المتميزة.

قراءته لديوان حافظ الشيرازي وإعجابه به كثيراً(5).

تأثيرات الشرق في غوته:

عرف غوته الشرق من خلال المعلقات التَّي ترجمها إلى الإنجليزية المستشرق " (وليم جونز1974 - 1794 م)، و أصدرها في لندن عام (1783م) ثم ترجمها غوته إلى الألمانية، لإعجابه بها إعجاباً عاماً وإعجاباً خاصاً؛ لأنه رأى في كل واحدة منها ما تمتاز به من غيرها.

وقد تأثر غوته بالشعر الجاهلي، حتى أنه فهمه وترجم بعض قصائده، وهو فهم نابع من  إدراك حسي ما كان ليتأتى لولا رهافة حس شاعر كغوته، فقد وصف قصائد الجاهلية ولا سيما المعلقات بأنها " قصائد مديح نالت الجوائز في المباريات الشعرية، نظمت في العصر السابق على مجيء النبي محمد، وكتبت بحروف من ذهب، وعلقت على أبواب بيت الله الحرام في مكة، وتعطي فكرة عن شعب بدوي محارب، يمتهن الرعي، تمزقه من الداخل المنازعات بين القبائل التي يصارع بعضها بعضا، وتعبر عن التعلق الراسخ بالرجال الذين من نفس العنصر، وعن الشعور بالشرف، والرغبة العارمة في الثأر مع حزن في العشق، والكرم، والإخلاص، وكل هذا بغير حدود، وهذه القصائد تزودنا بفكرة وافية عن علو الثقافة التي تميزت بها قبيلة قريش التي منها النبي محمد، ولكنه أضفى عليها غلالة جادة من الدين، وعرف كيف ينتزع منها كل مطمع في تقدم مادي خالص" (6).

ثم يقيِّم هذه القصائد الممتازة التي يعدها كنوزا رائعة، ويصفها بالرفعة والتنوع والسمو، يقول" فمعلقة امرئ القيس رقيقة بهيجة أنيقة متنوعة سارة؛ وأما معلقة طرفة فجرئية حية وثَّابة، ومع ذلك يشيع فيها نوع من البهجة؛ وقصيدة زهير قاسية، جادة عنيفة، حافلة بالحكم والأدب والجمل الجليلة؛ وقصيدة لبيد خفيفة هيمانة أنيقة رقيقة، تذكرنا بالرعوية الثانية لفرجيل لأنه يشكو من كبرياء الحبيبة ويتخذ من ذلك فرصة لتعداد مناقبه والتفاخر بقبيلته؛ وقصيدة عنترة تبدو متكبرة، مهددة، حافلة بالتعبير، لكنها لا تخلوا من جمال في أوصافها وصورها(7).

هذا الوصف الدقيق مبني على معرفة ببيئة العرب ولغة العرب وطببيعتهم، ويؤكد ذلك ترجمة أبيات من معلقات امرئ القيس وزهير ولبيد وطرفة، كما ترجم قصيدة تأبط شرا كاملة. وفي ديوانه قصيدة عنوانها" ذرني أذرف العبرات" (ص 352)، وهي مما نشر بعد وفاته وما نظمه في معشوقته " مريانه فيلمر" بعد أن افترقا عام (1815م) وكانت زوجا لصديقه " ياكوب فيلمر" الذي تزوجها عام (1814م) وتعرف عليها جوته في العام نفسه وتبادلا حباً عنيفاً، وقد استعار جوته لها اسم" زليخا" وضمنّ " كتاب زليخا" من الديوان عددا ًمن قصائده منها:

ذرني أذرف العبرات محاطاً بالليل

في الفلوات غير ذات الحدود

الإبل تستريح، وكذلك أصحابها

والأريني يسهر ويحسب في صمت

وأنا بجواره، أحسب الأميال

التي تفصلني عن زليخا، وأكرر

المنعرجات الثقيلة التي تطيل في الطريق

ذرني أذرف العبرات! فلي في هذا عار

فالرجال البكاؤون أخيار(8) .

فقد تأثر غوته بهذا الجزء من القصيدة بمعلقة أمريء القيس كالبكاء على فراق المحبوبة، والابتداء بالنسيب، ورحلة الصحراء، إن تكرير جوته" ذرني أذرف العبرات" مرتين يذكرنا بقول امريء القيس في مطلع معلقته:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل          بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وقال غوته " محاطا ًبالليل" ينظر إلى بيت امرىء القيس من المعلقة:

وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله            عليّ بأنـــواع الهمـــوم ليبتــــلي

ومن الثابت أن غوته كان يقرأ، وهو ينظم قصائد الديوان، ترجمة الألماني " أنطوان تيودور لبيتي امرئ القيس:

وقـــوفاً بها صحبي عليّ مطيهم          يقولـون لا تهلـك أسى وتجلــد

وإن شفــائــي عبرة مهــــراقة         فهل عند رسم دارس من معول

حيث ترجمهما بقوله:

وقف الأصحاب ليقولوا لي وهم على ظهور مطيتهم: لا تجزع وتجمل بالصبر".

       إن الدموع فقط (هكذا أجبتهم) هي التي تخفف من كربي".

وقد ترجم من هذه القصيدة ثمانية عشر بيتا (9).

ومن القصائد التي يبدو أثر المعلقات فيها، كذلك، قصيدة"هجرة" في " كتاب المغني"، وقصيدة " أنى لك هذا ؟ " في " كتاب الحزن أو"سوء المزاج" (10).

كما واهتم غوته اهتماماً خاصاً بالقصيدة المعروفة المنسوبة إلى " تأبط شراً"،  وقد ترجمها كاملة، إضافة لاهتمامه بشعر زهير بن أبي سُلمى(11).

وحين بلغ غوته السادسة والستين عندما التفت، في نظر بعض الدارسين، إلى أدب الشرق، وبخاصة إلى الأدبين الفارسي والعربي. ولكن الحقيقة أن ورود هذا المنهل الشرقي قديمُ عهدٍ لدى غوته، فإن أستاذه الكبير، (هِردِر)، لفته إلى الشرق منذ أيام الدراسة الجامعية في (ستراسبورغ). وهكذا عكف غوته، منذ تلك الأيام، على مطالعة القرآن، في ترجمته الألمانية واللاتينية، والتمعّن في آياته والتشبّع بمضامينه(12) 

وفي ديوانه الذي نظمه في آخر حياته "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي"، يبدو أثر القرآن جليّاً في صياغة هذا الديوان ومعانيه، وحكمه وشعره ونثره، وقد اقتبس بعض الآيات القرآنية عن الترجمة الألمانية التي قام بها (ميجرلن) عام (1771م)، ومن الترجمة اللاتينية التي قام بها (مارتشي)، وهي اقتباسات كتبها بخط يده، و وظفها في شعره ونثره، ومنها:

تاثره  بالآيات (27- 32) من سورة طه ، حين بعث برسالة لهاردر، وفيها يتحدث غوته عن التفوق، والآيات هي عن دعاء موسى عليه السلام لربه أن يحلل عقدة من لسانه، قال تعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾.

الحديث عن التقوى والإيمان والحق، فهو يرى أن هذه الصفات لا تظهر في الاعتقاد فقط، بل أن تقترن بأعمال البر والإحسان، هذه الفكرة مأخوذة من فهمه للآية: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 112)، وكذلك الآية ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة :177).

بين الآيات التي تتحدث عن قدرة الله تعالى يقول:

"لله المشرق

ولله المغرب

وفي راحتيه الشمال والجنوب جميعاً.

هو الحق

وما يشاء بعباده فهو الحق

سبحانه له الأسماء الحُسنى

وتبارك اسمه الحق

وتعالى علواً كبيراً.

فهذه الأبيات مقتبسة من قوله تعالى: ﴿وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 115)، ومن قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون﴾ (البقرةَ:164).

4- تبليغ الرسالة الإلهية، وهذا أثار جدلا مع مفكرين حول إن كان الرسول فقط المسيح، أم أن هناك أنبياء يجب الإيمان برسالاتهم، فقد اقتبس غوته من قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144).

5- أظهر إعجابه ببراعة القرآن، وبخاصة قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 46) هذه الآية أسرت لب غوته، حتى أنه قال فيها:" ألا ما أروعها ". والأمر اللافت أن غوته لم يأت على ذكر الآيات التي تظهر التدين عند المسيحيين، وبخاصة آيات سورة التوبة (30 – 34)(13).

كما وتمتد صلة غوته بالإسلام من خلال إعجابه بشخصية (محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم) فهو مفتون ومأخوذ بحياة النبي، حتى إنه نظم مسرحية عن "محمد"، وشرع فيها منذ عام 1773، وخطّط لفصولها الخمسة، ولكنه لم يُنْجز سوى الفصل الأول المعنون: مناجاة محمد. وخلال هذا الفصل يدور حوار بين محمد ومرضعته حليمة السعدية، فيقول لها النبي: "لست وحدي، إن الله ربي يُؤْنس وحدتي. فتجيبه حليمة: أرأيته؟ فيبادرها محمد قائلاً: ألا ترينه عند كل عين جارية، وتحت كل شجرة مزهرة؟ أراه بعين البصيرة مقبلاً عليّ، وأُحس حرارة عطفه وحبّه. ما أعظم عرفاني لفضله، وتسبيحي بحمده! لقد فتح صدري وانتزع الشغاف عنه، حتى أُحسّ قربه في الصميم من قلبي".

وهناك "النشيد المحمّدي" ضمّنه غوته ديوان أشعاره، ويبدو أنه نظمه، في الأصل على شكل حوار جارّ بين عليّ وزوجته فاطمة في تحيّة النبي.‏ فقد أفرد مسرحية ً خاصة بالرسول الاكرم محمد صلى الله عليه وآله أسماها (نشيد محمد) وهو عبارة عن حوار بين النبي وبين إبنته الحبيبة فاطمة الزهراء زوجة الصحابي الشجاع علي بن ابي طالب، وفيها يصف بها النبي محمد (ص) الهادي للبشر وبالنهر المتدفق صوب محيط الألوهية, فنراه في هذا الوصف يشبه المتصوفة في وصفهم ولا غربة في ذلك، فأن غوته كما يقال عنه أنه كان ينتمي الى (الغنوصوية) وهي إحدى الطرق الصوفية التي كانت سائدة في بعض المناطق الألمانيه وقتئذٍ، التي تعتمد على التقوى الدينية. وفي هذه المسرحية يصور هذا الكاتب كيف أن النبي وصل الى مرحلة النضوج الكامل في الحالة الإيمانية والتي عاشها بكامل أبعادها الروحية فيتجه الى زوجته السيدة (خديجة) من أجل مساعدته في حمل راية التوحيد, ، وبذلك يعطي إنطباعا ً على أهمية الدور الذي أعطاه الرسول للمرأة؛ فيصفها بأحب الناس اليه، فيقول غوته في الجزء الثاني من كتابه الشعر والحقيقة (وبعد أن ينتهي محمد من نفسه الى الإيمان يفضي بهذه المشاعر الى ذويه, فيختار زوجته خديجة وعلي بن عمه بصورة مطلقة) ثم يعرج هذا الكاتب بذكر الرجال الذين وقفوا مع النبي وآمنوا بمبادئ الدين العظيم ك علي بن ابي طالب واصفا دور الأمام علي في الذود عن الإسلام والوقوف مع النبي لأيمانه بالقيم الكبيرة التي نادى بها الإسلام.

لقد جاء ذكر غوته لفاطمة ومن قبلها أمها خديجة كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في ترجمته للديوان الشرقي لأن السيدة خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين وحبيبة النبي التي لم يتزوج بغيرها طول حياتها وهو المخلص والوفي لها بعد مماتها, واما ابنته الحبيبة الى روحه وزوجة ابن عمه وربيبه وام الحسن والحسين رضي الله عنهما . والتي كان يقول عنها (فاطمة بضعة ٌ مني).

وهذه مقطوعة من القصيدة، مترجمة عن الانجليزية:

أنظروا إلى نبـع الصخور،

لمّـاعاً من الإبتهاج،

كَـوَمضـاتِ النجـوم!

ومن فـوق الغـيوم

ملائكـة أخيـار

تغـذي عنـفوانـه

بين الصّـخور في الأدغـال(14).

أثر شعر المتنبي في الديوان الشرقي الغربي:

أحسَّ غوته بالقيمة الإبداعية للشعر الجاهلي، وأهمية الدين وما به من روح للتسامح وما يحتوي من قيم أخلاقية تفرد بها، مما زاد تعلقه بالأدب العربي وسعيه لمعرفة المزيد عنه، فوسع دائرة اطلاعه لتشمل الأدب العربي في العصر العباسي، فكان المتنبي من أهم مصادر ثقافته وتأثره، وتبين السياقات المختلفة التي ورد فيها اسم المتنبي في كتابات غوته، أنه نظر لهذه الشخصية نظرة إكبار، حتى أنه حاول من خلال قصائده أن يتقمص هذه الشخصية التي أثارت جدلا واسعا بين أوساط الدارسين في عصره وما تلاه إلى يومنا هذا.

كان المتنبي قبل أن يخوض غوته في أعماق أعماله شخصية شبه مجهوله، فالتعريف به في الغرب لم يتعدَ أسطرا وإشارات، إلى أن جاء غوته وعرّف بهذه الشخصية الكبيرة من خلال ديوانه الشرقي، فالمختارات الغربية لقصائد الشاعر لم تتعد قصائد معدودة كالتي اختارها (فون همر) (1816م)، والتي لم تزد عن تسع قصائد، قبل أن يترجم ديوان المتنبي كاملاً (15).

سمع غوته عن المتنبي وهو ابن ستة عشر عاما، في معرض الكتاب الذي نظمته مدينة( ليبزيج) عام 1765، من خلال قصائد غزلية وحزينة ترجمها ونشرها باللغة الألمانية (يوهان رايسكة)، الذي قال عن المتنبي:" وكما كان محمد خاتم الأنبياء وتاجهم، كذلك كان المتنبي، أول شعراء الإسلام وتاجهم" (16).

لقد أفاد غوته من المعلومات القليلة التي نُشرت عن المتنبي، في تعليقاته وأبحاثه الملحقة بالديوان، وهو يتحدث عن صفات المتنبي وخصائصه، ومما قال فيه: يعني هذا الاسم المدعي النبوة أو المتظاهر بأنه نبي، وهذا هو لقب أبي الطيب أحمد بن الحسين الذي ينتمي إلى قبيلة جعفى، وكان قد ولد في الكوفة في حي من أحيائها يسمى (كندة)، ولذا فقد لقب بالجعفي والكندي والكوفي، كما لقب بالمتنبي إثر ادعائه النبوة في لحظة من لحظات جنونه، وأمسى هذا اللقب هو الأكثر شهرة.

ولد المتنبي عام (303هـ) وتجول في شبابه بين الكوفة ودمشق حيث؛ درس الأدب؛ فبرع في الشعر العربي براعة جعلت الكثيرين يفضلونه على أبي تمام، وفي الحقيقة فإن هذا هو منافسة الوحيد على المرتبة الأولى، ولقد جعلته المكانة الرفيعة التي حازها والشهرة العريضة التي نالها موضوعاً لكتابات وتعليقات أربعين من مختلف الكتاب. يبدو أنه عرف مقولة ابن خلكان، حين قال: وقفت على أكثر من أربعين شرحا لديوانه(17).

ويعيب البعض من الحساد على هذا الشاعر أن أباه كان سقاء في الكوفة، وإن كان هو نفسه يزعم بأنه سليل أسرة نبيلة، وفي هذا يكمن السبب الذي جعل أحد الشعراء العرب يهجوه بسخرية وبما معناه: تلك أصالة شاعرنا، إنه يطلب الإحسان في الصباح من الناس ويتسول في المساء، وأنه كان، في وقت لم يكن بعيداً، يبيع الماء العادي في الكوفة، أما الآن فإنه يبيع ماء نافورة الخلود.

وقد حقق هذا الشاعر ثروة كبيرة من وراء شعره، فقد كافاه عليه الأمراء بسخاء، وكانت نفسه قد زينت له أن يكون نبياً في القوافي مثلما كان محمد (صلى الله عليه [وآله] وسلم) نبيا (أنزل عليه القرآن) نثرا ولم يعدم المريدين، لا سيما بدو الصحراء العربية من أمثال الكلبيين، وكان عامل الإخشيدي في تلك المنطقة قد اعتقله وقطع الطريق على طائفته قبل أن يستفحل أمرها، وظل في سجنه حتى أدان هو نفسه هذا الجنون وأعلن تخليه عن هذا الوهم، فاستعاد حريته واستقر به المقام في مجلس سيف الدولة الحمداني الذي كان يقرب إليه رجال الأدب النابغين، ثم ذهب إلى كافور الإخشيدي الذي أسبغ عليه الكثير من العطايا، ومع هذا فقد نبذ الشاعر عطايا كافور، وغاضبه وهجاه وهرب من مصر واحتمى لدى عضد الدولة، سلطان البويهيين، وكان قلق هذا الشاعر عظيما، فلم يحتمل البقاء في بلاط هذا الأمير، فقرر العودة إلى الكوفة، مسقط رأسه. وعندما وصل إلى النعمانية بالقرب من بغداد هاجمه نفر من قبيلة بني أسد، التي كان رجالها قطاع طرق، لكن الشاعر أبى الفرار، فراح يقاتلهم فقتل هو وابنه عام 354 هجري(18).

وكان غوته قد ذكر اسم المتنبي في الديوان الغربي – الشرقي في موضعين، فهو يرد مرة في قسمه الشعري ومرة في " التعليقات والأبحاث" وللوهلة الأولى، يبدو ذكر المتنبي في القصيدة المدرجة ضمن " كتاب زليخا"، والتي مطلعها " الشعب والخادم والظافر"(19). فقصائد المتنبي الغزلية ألهمت غوته فظهر ذلك في قصيدته الحوارية البديعة (سماح) التي كتبها عام (1820م)، أي بعد صدور الطبعة الأولى للديوان (1819م)، فألحقت بالديوان مع طبعة (1827م). والقارئ الذي يطالع هذه القصيدة، مع قصيدة (رجال مبدعون) أو رجال (مؤهلون)، كما في ترجمة عدنان عباس، سيجد مضمونهما واحدا مع شيء من الاختلاف، ألا وهي الصفات التي تؤهل صاحبها للإذن لهم بدخول جنة الفردوس؛ ففي (رجال مبدعون) كان البطل المسموح له بالدخول هو الذي يحمل الجرح الذي أُصيب به في سبيل الإيمان. أما في قصيدة (سماح) فإن الحورية تمنع (حاتم) أو (غوته) من الدخول؛ لأنه خال من الجراح التي أصابت الشهداء. وهذه الفكرة مستوحاة من فكرة أن قتيل الحب شهيد عند المسلمين، وقد استوحاها الشاعر من بيتين للمتنبي ترجمهما (رايسكة) وهما:

كم قتيــل كما قُتلتُ شهـيدٌ         لبياض الطلى  وورد الخدود

وعيون المهــا  ولا كعيــون         فتكت بالمتيم  المعمـود(20)

ومما قاله غوته في قصيدة (سماح) وهو يتقمص شخصية المتنبي (حاتم):

الحورية

أنا اليوم حارسة

أمام باب الجنة،

ولست أدري جيداً ماذا أفعل؟

فأنت تبدو لي مريباً

هل أنت حقاً أحد

المسلمين الصادقين؟

هل جهادك وفضائلك

هي التي بعثت بك إلى الجنة ؟

إن كنت واحداً من هؤلاء الأبطال،

فأرني جراحك، التي تنبئني عن أفعال مجيدة،

وحينئذ أسمح لك بالدخول

الشاعر

دعيك من كل هذه المماحكات!

واسمحي لي بالدخول:

لأني كنتُ إنساناً،

ومعنى هذا أني كنت محاربا.

أحدّي بصرك القويّ

وانفذيه هنا – في أعماق قلبي،

انظري خساسة جراح الحياة،

أنظري شهوة جراح الحب!

ومع ذلك فقد غنيت بإيمان:

فقلت إن حبيبتي أخلصت لي،

وإن العالم، مهما تدر به الأحوال،

كان مليئا بالحب والعرفان الجميل

ومع الأفاضل، سوية،

عملت حتى اليوم الذي حقق فيه لنفسي

أن يلمع اسمي في أجمل القلوب

ويتقد في شعلات الحب

لا، أنت لا تختارين غير جدير!

هات يدك حتى استطيع كل يوم،

على أناملك الرقيقة،

أن أعد الآباد (21).

وقد قال بهذا المعنى جميل بثينة في قصيدته الرائعة( ألا ليت ريعان الشباب جديد) حين قال:

لكل حديث بينهن بشاشة           وكل قتيل عندهن شهيد(22)

فالفكرة التي أرادها غوته هي من يعفّ في حبه يموت شهيدا، وهذا مطابق للشعر وللحديث النبوي، وقد حاول أن يتمثل شخصيات فيرتر وأوتليه وتاسو الذين انتهى بهم الحب إلى الجنون، أو الزهد الذي يقترب من القداسة(23).

ومن نفس القصيدة نجد غوته قد صور نفسه كالمحب المتأرجح بين السقم والعافية، أو أن كلامه كالمسك الذي تحمله الريح من غدائر المحبوبة كما يقول المتنبي:

لا بقومي شرفت بل شرفوا بي         وبنفسي فخــرت لا بجدودي

ومن الأفكار التي استوحاها غوته من المتنبي، فكرة الإحساس بأن الشاعر العربي متجول مثله وأنه غريب وعظيم، كتب عليه أن يعيش وسط الصغار والأواسط، كل ذلك وغيره جعل صاحب الديوان الشرقي يحس بمدى التعاطف الذي يجمعه بشخصية المتنبي، وبشعره الذي لم يتح له الاطلاع إلا على القليل منه(24).

إنَّ معظم قصائد غوته المتأثر بها بالمتنبي قد وردت في ديوانه من خلال كتاب زليخة، و كنى نفسه فيها بحاتم، يقول في المقطعين الثالث والرابع من قصيدة (الشعب والخادم والظافر):

حاتم

هذا جائز! وهذا ما يعتقده الناس؛

لكنني اقتفي أثراً آخر:

فكل ما تنطوي عليه الأرض من سعادة

أنا لا أجده إلا في زليخا

فهي حينما تبذل نفسها لي

فإني أرى نفسي ذاتا ثمينة؛

ولو صدت عني

لأضعت ذاتي في الحال(25).

ففي هذا المقطع عبر غوته بهذه الفكرة وعلى لسان" حاتم" عما يجيش في نفسه، فهو يرى، باستمرار، في نفسه" شيخا" و " شاعراً يكاد المشيب أن يعلو مفرقيه"؛ وبالتالي فإنه يشعر بالحرج حينما يمنّي نفسه أن تتجاوب الشابة" زليخا" مع حبه لها، إلا أن معاناة الشيخ من تأنيب الضمير ما كان لها مبرر، فزليخا ما كانت تحفل بذلك كله، بل كانت تقدم لحاتم تأكيدات تشهد على حبها له وذلك على أمل أن تبدد كل شكوكه بهذه التأكيدات(26).

وقد لمس من خلال الحوار جواً تدبّ فيه الحياة على نحو متميز، فحب غوته لمريانه فيليمر كان قد تغلغل في أعماق قلبه، وبالتالي فقد غمرت الفرحة شاعر الديوان حينما لمس " الوفاء الذي أبدته عن طيب خاطر لخريف العمر المتأخر".

وفي مقطع آخر يقول:

وحينذاك سينتهي حاتم؛

وسأختار مصيراً آخر،

سأتجسد حالاً

في العاشق السعيد الذي تغازله

وسأود أن أكون، لا، ربانياً أود أن أكون،

فتلك فكرة لا تخطر ببالي،

بل سأود أن أكون الفردوسي أو المتنبي،

أو على الأقل القيصر(27) .

وهكذا تفصح الأبيات فجأة وبنبرة تنطوي على شيء من الغبطة عن أفق معز، فلو صدت عنه زليخا، فهو لن يضيع كل الفرص التي تجعله يشعر بأن له " ذاتا ثمينة"، إن " حاتم" فقط هو الذي " سينتهي"، أو بعبارة أخرى أدق، سيشرق الدور الرئيس الذي يود غوته أن يلعبه في " الديوان" إزاء مريانة على النهاية، أعني دور العاشق الذي تنقصه فتنة شباب يوسف.

وفي هذا السياق فإن الدور العظيم الذي يقوم به الشاعر الكبير، هو أن يكون" ندّا للمتنبي حتى يكسب ود زليخا بصفته شاعراً كبيراً وذلك لأنه كان يعلم أنه لن يفقد، بصفته هذه، حب مريانه له أبداً، ومن هنا فإنه يقول على لسان زليخا أبياتاً هي بمثابة رد على مخاوف حاتم: " لا أريد أبداً أن أفقـــدك" وهــو ما جاء على لسانه بقوله:

زليخا

لا أريد أبدا أن أفقدك

إن الحب يُقوي الحب

وأنت تزين شبابي

بعاطفتك المشوبة القوية

آه! كم تهتز عواطفي

حين يمدح أحد الناس شاعري

فالحياة هي الحب

والروح هي حياة الحياة(28).

ونقع على موضوع الشاعر الكبير ونتاجه في أماكن مختلفة من " الديوان الغربي – الشرقي" ونسوق على سبيل المثال لا الحصر: " مثلما دكان الصائغ"، هذه القصيدة التالية لقصيدة " الشعب والخادم والظافر..." في " كتاب زليخا" ففيها تجري الإشادة بغوته على أنه شاعر الغزل الذي يحظي بحب زليخا الكبير وحب غيرها من النساء ذلك، لأنه يمجدهن في قصائده، ويظهر حاتم هنا بدور الشاعر الكبير الذي تحسد الفتيات عليه زليخا، وفي مواضع أخرى، أيضا، يظهر شاعر الديوان في دور الشاعر الشهير، هذا الدور الذي رمى للقيام به بعدما بلغ حاتم النهاية، وينطبق هذا الأمر على باقي الأدوار التي لم يرفضها، بل ظلت أمراً محتملاً بالنسبة له، ففي " الديوان" هناك العديد من الإشارات إلى ذلك، وعند إمعان النظر في كل هذه الجوانب، يتضح لنا الأمران التاليان:

أولاً: أنه كان يفكر دائماً وأبداً بدور وحيد ألا وهو دور الشاعر الكبير.

ثانياً: أن ثمة أبعاداً ستبرز في هذا السياق ستجعل غوته يحظي بحب مريانه – زليخا الكبير(29).

وفي موضوع آخر كان غوته قد استلهم من المتنبي إحدى قصائد زليخا، فعند قراءته للجزء الخامس من " كنوز الشرق" الصادر عام 1816، وقع غوته على قصيدة المتنبي السابقة الذكر والتي كانت قد تناولت موضوع شهيد الحب وأوحت إليه- بالترجمة التي قام بها رايسكه وبشروحه عليها- المادة التي تناولتها قصيدة " السماح بالدخول"، المدرجة في " كتاب الفردوس" نعم لقد ألهمت ترجمة فون هامر، للقصيدة الغزلية نفسها غوته مرة أخرى، ولكن من خلال بيت آخر، إنه البيت الذي يقول فيه المتنبي:

جمعت بين جسم أحمد والســــ             ــقم وبين الجفون والتسهيد(30)

فقد استعار غوته من بيت المتنبي هذا صورة المحب الولهان المتأرجح بين السقم والعافية فضمنها قصيدة نظمها في العام (1817م)، أي في وقت متأخر نسبياً، ففي البيت الثامن وما يليه من القصيدة التي مطلعها " إني أعرف تماماً نظرات الناس". يقول غوته:

حتى لنود، ونحن في تمام العافية، أن نصير مرضى

هنالك شاهدت زليخا

ووجدت العافية في السقم

والسقم في العافية

ولا ريب في أن مضمون بيت المتنبي يرد في هذا البيت أو ذاك من أبيات حافظ أيضا، إلا أن الزمن الذي كان فيه حافظ شديد التأثير على غوته، كان في كانون الأول / ديسمبر من عام 1817، قد انصرم منذ أمد ليس بالقصير، الأمر الذي يعني أن غوته قد استوحى هذه الفكرة من المتنبي وليس من حافظ.(31)

وتسري هذه الحقيقة على تلك الأبيات أيضا التي تناول فيها غوته أريج المسك كموضوع يطري به الحبيبة، فهناك احتمال كبير في أنْ تكون هذه الأبيات أيضا قد استلهمت من القصيدة عينها التي يقول فيها المتنبي:

تحمل المسك عن غدائرها الريح         وتفــتر عن شنيــب بــرود(32)

وكان رايسكه أيضا قد ترجم هذا البيت وشرح قائلاً:

يقول الشاعر إن حسناءه تنشر من حولها عطراً ذكيا عند تمايلها أو عند سيرها تماماً كما تنشر رائحة المسك عند تحريكه، وأن المرء يشعر بوجودها إينما ذهب، ذلك لأن وجهها يسطع كما لو كان شمساً"

ونعثر ضمن الأشعار الملحقة بالديوان العربي الغربي – الشرقي على البيتين الآتيتين:

أنت رائعة كالمسك

فأينما تكوني، يلحظك الناس

وكذلك:

أنت مسك، فأينما تكونين

يلحظك الناس(33).

واحتمالية أن يكون شاعر " الديوان " قد وقع على هذه الصورة عند شعراء شرقيين آخرين، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن القصيدة التي كان غوته يمنحها اهتماما خاصا، غالبا ما كانت تصبح " ينبوعا" متدفقا تفيض عنه موضوعات وصور خصبة، وباهتمام من هذا القبيل حظيت القصيدة التي هي مدار حديثنا هنا، فهذه القصيدة التي نظمها المتنبي في صباه استرعت انتباه غوته ونالت اهتمامه وذلك بسبب ما يجري في مطلعها من حديث عن " شهيد" الحب، هذا الموضوع الذي اثر غوته على نحو خصب جداً، وإلى جانب هذا فقد اشتملت القصيدة على الكثير من آراء المتنبي التي كان لا بد أن توقظ في غوته الشعور بأواصر القربى، فهناك، مثلاً، إشادة بالنبيذ:

كــل شيء مـن الدماء حرام            شربه ما خلا ابنه العنقود(34)

فهذه الإشادة تتطابق كلية مع موقف حافظ وغوته من النبيذ، كما اشتملت القصيدة على رغبة ملحة للتمتع بنعم الحياة تنسجم هي الأخرى أيضا مع مشاعر غوته:

          فاسقنيها فدى لعينيك نفسي         من غزال وطارفي وتليدي(35) 

كما تضمنت القصيدة تعبيراً ينم عن شعور قوي بالفخر بالنفس والاعتزاز بالذات وذلك حينما يقول المتنبي:     إن أكن معجبا فعجب عجبي لم يجد فوق نفسه من مزيد(36).

فهذا البيت يذكر ببيت غوته الذي يقول فيه ":" ما السمو؟ إنه مألوف لي!"

ويجدر بنا أخيراً أن نذكِّر بموضوع آخر كان هو أيضا قد عمق إحساس غوته بأواصر القربى التي تجمعه بالمتنبي، فالأخير يصف نفسه في القصيدة عينها بأنه " متجول" دائم التجوال، إذ يقول:

أبدا اقطــع البــــلاد ونجــمي       في نحوس وهمتي في سعود(37)

فلقب " المتجول" كان الكنية التي أطلقت على غوته منذ مطلع السبعينات، وبهذا اللقب دأب غوته على التنويه عن نفسه في العديد من قصائده، كقصيدة " أغنية المتجول في العاصفة" (1771م) التي مطلعها: 

                                أنت القادم من السماء"

و " مناجاة المتجول في المساء الثانية " (1780م) التي مطلعها:

                               على كل القمم سكون"

وكذلك قصيدة " المتجول والمستأجرة" (1814م) المدرجة ضمن قصائد " الديوان الغربي – الشرقي) والتي مطلعها:

                        ألا لا يشكون من الوضاعة إنسان" (38)

وغير ذلك كثير، أما وأن غوته كان يميل، عموماً، إلى الحياة البدوية القائمة على الترحال، فهذا أمر سبق لنا أن ابناه بجلاء، وبالتالي فبوسع المرء أن يفترض أن اشتراك كلا الشاعرين بالإحساس بأنهما، دائما وأبداً في تجوال مستمر كان لا بد أن يعمق وعي غوته بأواصر القربى التي تجمعه بالمتنبي"(39).

*  هوامش البحث *

كارتاينا مومزن، غوته والعالم العربي، ترجمة عدنان عباس، مكتبة ديوان، بيروت، ط1، 2009، ص 15.

المرجع نفسه، ص 17.

الأدب المقارن، منشورات جامعة القدس المفتوحة، 2009، ص126.

المرجع نفسه، ص 126.

المرجع نفسه، ص 127؛ وكاترينا مومزن، ، ص 293.

كاترينا مومزن، ص 81.

المرجع السابق، ص 82.

غوته، النور والفراشة، ترجمة عبد الغفار مكاوي، منشورات الجمل، ولونيا، المانيا- بغداد، ط1، 2006، ص 362؛ والديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ، ص233.

النور والفراشة، ص 72 – 73.

المرجع السابق، ص75-77، 207؛ الديوان الشرقي، ص 55، 162.

الأدب المقارن، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمّان، 2009،ص129.

كاترينا مومزن، ص219.

كاترينا مومزن، غوته والعالم العربي ، ص 215 – 242؛ وديوان النور والفراشة، ص 94 – 98.

النور والفراشة، ص 90 وما بعدها، والأدب المقارن، ص 131.

النور والفراشة، ص 19.

كاترينا، ص 415.

ابن خلكان، ابو العباس شمس الدين أحمد (681هـ)، وفيات الأعيان، تحقيقك إحسان عباس، بيروت، دار صادر، ج1، ص 121.

كاترينا، ص 428 – 430.

المرجع نفسه، ص 431.

النور والفراشة، ص 20؛ وكاترين، ص 422، وشرح ديوان المتنبي، تأليف عبد الرحمن البرقوقي، القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2014، ص385؛ والديوان الشرقي، ص 307، 315، 319).

كاترينا، ص 423؛ والديوان الشرقي، ص 315

ديوان جميل، بيروت، دار بيروت، 1982، ص 17.

النور والفراشة، ص 21.

النور والفراشة، ص 21.

الديوان الغربي، ص231

كاترينا مومزن، ص 437.

الديوان الغربي، ص231

كاترينا مومزن، ص 440؛ والديوان الشرقي، ص 237.

الديوان الشرقي للقارئ الغربي، ص213 وما بعدها، وكاترين ص 446.

البرقوقي، الديوان، ص386.

كاترينا، ص 452.

البرقوقي، الديوان، ص 386.

كاتريناـ ص 453؛ والديوان الشرقي، ص 247.

البرقوقي، الديوان، ص386.

البقوقي، الديوان،ص386.

البرقوقي، الديوان،ص386.

البرقوقي، الديوان،ص386.

الديوان الشرقي، ص

كاترينا مومزن، ص 455.

***