البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

قراءة في كتاب (محمد : النبي ورجل الدولة) للمستشرق البريطاني مونتغمري واط

الباحث :  السيد كاظم عبد الرزاق الحسني
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  11
السنة :  السنة الرابعة - ربيع 2017م / 1438هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 16 / 2017
عدد زيارات البحث :  2677
تحميل  ( 222.995 KB )
الاستشراق – بشكلٍ عام- نمط من السلوك الثقافي المهم الذي أنجزه العقل الغربي، وتكمن أهميّته المزدوجة، أنّه ينقل تجربةً تاريخيّة بكلّ مظاهرها، ومن بيئة وفضاء مختلفين، إلى بيئاتٍ وفضاءات أخر، يفيدون منها اجتماعيا وسياسيّا، وتمدّهم بالخبرات وتراكم المعرفة. ولذا يرى الدكتور ادوارد سعيد أنّ الاستشراق في أحد وجوهه أسلوب غربي للسيطرة على الشرق([1])، ومن جهة ثانية أنّه يعدّ دراسة وتحليل لتراثنا من خلال منظور خارجٍ عنه، فنحن نعاين في الاستشراق وعي الآخر لنا، وهو أمرٌ في غاية الأهمّية، نرصد من خلاله معالجات ونقاط قوّة وضعف ربّما لا يلتفت إليها الباحث وهو ينظر إلى تراثه من الداخل، على أنّه ينبغي أن نتعامل مع هذا الوعي بموضوعيّة تستند إلى خبرة عميقة في الموضوعات التي يتناولها الاستشراق لتفادي الوقوع في شرك (الثقافة الغالبة) على حدّ تعبير ابن خلدون.
هذا النمط من الثقافة تفتقر إليه منظومتنا الثقافية العربية والاسلاميّة قياسا بالمنجز الغربي، وكان مشروع (الاستغراب) الذي أطلقه الدكتور حسن حنفي قبل عقود في سياق التوازن في نقد المكوّن الثقافي الآخر شعوراً بضرورة بهذا النمط في إغناء ثقافتنا من خلال تجديد آليّاتها وتعميق خطابها، ومحاولة جادّة للخروج من التفكير السلفي والتغريبي اللذين مثّلا طرفي الافراط والتفريط في كيفيّة التعامل مع الثقافة الغربيّة([2])، كما أنّ هذا المشروع يعيد النظر بالقيمة المعرفيّة للاستشراق، ويزلزل فكرة أنّ ما قيل عن الشرق يعدّ حتميّاً ([3]).
ولا شكّ في أنّ نقد الاستشراق وتحليل مقولاته عن التراث العربي والإسلامي، يشكّل مفصلاً مهمّا من مفاصل مشروع (الاستغراب) وإن كان بشكلٍ غير مباشر، وفي هذا السياق كانت هذه الملاحظ النقديّة لكتاب المستشرق البريطاني مونتغمري واط (محمّد: النبيّ ورجل الدولة).

مونتغمري واط:
جاء في موقع (ويكيبيديا) الموسوعة الحرّة، «وليام مونتغمري واط (14 مارس 1909 -24 أكتوبر 2006) كان مستشرقا بريطانيا عمل أستاذا للغة العربية والدراسات الإسلامية والتاريخ الإسلامي بجامعة أدنبرة في أدنبرة، إسكتلندا. ومن أشهر كتبه كتاب (محمد في مكة 1953) وكتاب (محمد في المدينة 1956)»، وله كتب أخرى منها (فضل الإسلام على الحضارة الغربيّة)، أمّا كتاب (محمّد النبي ورجل الدولة) الذي ترجمه حمّود حمّود، فهو بمثابة اختصار لكتابيه المذكورين كما صرّح المؤلّف نفسه في آخر كتابه([4]).

موضوعيّة مونتغمري واط:
ترسّم المؤلّف إلى حدّ كبير طريق الموضوعيّة والحياد في عرض سيرة النبيّ ص وملابسات الدعوة إلى الإسلام، وأخذ على كتّاب قومه تقويمهم سيرة النبيّ بطريقة التفكير الغربي عن طبيعة الجماعة الدينيّة([5])، وبقوانين العصر الراقي أو (الأقل رجولة وشجاعة)([6])، فالمنهج الصحيح لديه يكون من خلال تقويم الأحداث طبقاً لطريقة تفكير النبيّ 9، وطبقاً للمعايير المحليّة والعالميّة السائدة في ذلك العصر الذي عاش فيه النبيّ 9، فلا دليل على خيانة أو شهوانيّة أو رغبة في القتل، بدليل أنّ معاصري النبيّ لم ينتقدوه، ولم يجدوا فيه عيباً أخلاقيّاً، وقد سعى الإسلام للتخلص من كثيرٍ من تلك المعايير تدريجيّاً([7])، وفي هذا الضوء دافع عن النبيّ 9 في حملته ضدّ اليهود عموماً ويهود بني قريظة على وجه الخصوص، وعن الحكم الذي نزل بهم. وهذه الحملة تلقى تجاوبا لدى منتقدي النبي 9 من عرب وغربيين([8])، وقلّل في موضع آخر من كتابه من أهميّة ما قيل إنّ النبيّ أبقى بعض الطقوس الوثنيّة في ممارسات الحج؛ لأنّ الإسلام لم يتسامح أبداً مع أيّ طقس أو فكرة تتصادم مع اعتقاد (لا إله إلّا الله)، فلا بأس – من وجهة نظر مونتغمري- بالإبقاء على طقوس وثنيّة لا تتصادم مع التوحيد، مع تحويل ترميزها إلى ما يتناسب والدين الجديد، كرجم الجمرات الذي تحوّل إلى رمزيّة لرجم الشيطان([9]).

منهج مونتغمري:
اعتمد الكاتب طريقة التحليل في عرض الأحداث، ومحاولة رصد الأسباب والنتائج التي كان يتوخّاها النبيّ الأعظم 9، على طريقة فلسفة العلوم التي نشأت مدرستها في الغرب([10])؛ ولذا جاء أسلوبه التحليلي متّسماً بالنظرة الماديّة([11]) المفرطة التي تغيب في آفاقها الرؤى الغيبيّة والدينيّة التي كانت سببا رئيساً في مجمل أحداث الدعوة الاسلاميّة، فكان العامل المادي بتمظهراته المتنوّعة: الاقتصادي والسياسي والاجتماعي (القبلي) أقوى حضوراً من العامل الديني الغيبي، أو العامل الأخلاقي، وكذلك التفسيرات الميثولوجية، كتحليله لتحريم الأشهر الحرم ووجود الحرم المكّي، لعوامل اقتصادية ترتبط بانتعاش التجارة في مكّة([12])، مغيّباً العامل الأخلاقي في حقن دماء الناس الذي كان التشريع ناظراً إليه، وخلق فرصة زمانيّة ومكانيّة جيّدة للسلام والأمان. وتحليله لقصّة بحيرى الراهب، إذ يعزوها إلى المخيال الشعبي (الميثولوجي) الذي يسبغ الطابع السحري والخوارق على شخصيّة الرجل العظيم([13]). وكذلك يرى –تخمينا- أنّ الآيات التي تنسجم مع معتقدات أهل الكتاب ناشئة من تأثير الديانتين (اليهوديّة والمسيحيّة) في تفكير النبيّ لاحتمال وجود لقاءات بين النبيّ 9 وعلماء من الديانتين([14])، وهو ما سبقه إليه مستشرقون آخرون كما نوّه، ولكنّ مونتغمري حاول وضع تكييف اجتماعي لهذا التأثير يقلل من الغلوّ فيه([15]). وعزا إصرار أبي طالب على حماية النبيّ 9 لأسباب عصبيّة فقط([16])، وقد دفعته هذه الرؤية إلى التشكيك غير المبرّر علميّا بروايات تاريخيّة كثيرة، كتشكيكه من غير مبرّر معقول ببعض تفاصيل حادثة بيعتي العقبة الأولى والثانية ([17])، وبرواية مبيت أمير المؤمنين في فراش النبي 9 ليلة الهجرة([18])، وربّما هذا من تأثير كتّاب غربيين كتبوا عن حياة النبيّ بشكل متحيّز كما أشار بنفسه إلى ذلك([19]). وافترض مونتغمري أنّ النبيّ محمّداً حاول نمذجة الإسلام على الطريقة اليهودية لاستمالتهم من خلال اختيار بيت المقدس قبلةً، وصيام عاشوراء يوم الغفران اليهودي، وإقامة صلاة الجمعة التي ترتبط بالتهيؤ عند اليهود لعطلة السبت اليهوديّة([20])، واحتمل أنّ تحويل القبلة إلى مكّة بأنّه محاولة لكسب القبائل المعادية لليهود([21])! ومن الواضح أنّ ذلك رجم بالغيب وليس أكثر، وإنّما التوجّه لبيت المقدس ومن ثمّ التحوّل إلى مكّة، وإقامة صلاة الجمعة كانا امتثالا لتوجيهات الله سبحانه وتعالى لنبيّه 9، التي تستند إلى شبكة المصالح والمفاسد الواقعيّة التي تعلّل الأحكام الشرعيّة([22])، أمّا صوم يوم عاشوراء فهو من موضوعات بني أميّة. وعند حديثه عن فطنة النبيّ وذكائه في مواجهة مؤامرات الاغتيال القرشي، نقل حادثةً لم يشكّك بها ولم يقترح تفسيراً ماديّاً فتركها بلا تحليل، وهي مؤامرة سرّية جرت بين شخصين لاغتيال النبي 9 وعندما وصل أحدهما للمدينة لتنفيذ عمليّة الاغتيال واجهه النبيّ بكل تفاصيل المؤامرة، وربّما كان مونتغمري مؤمناً بها وبمفصلها الميتافيزيقي([23])، ولكن منهجه قد منعه من التصريح بذلك.
وعموما نحن نلحظ بوضوح تأثّر مونتغمري في تحليلاته المذكورة بعنصر التاريخيّة في فلسفة العلوم، الذي يعدّ التفسير العلمي المقبول –من وجهة نظرهم- في تفسير النصوص والوقائع والأنماط المختلفة للسلوك([24])، فعلى سبيل المثال يرى المفكّر الجزائري محمّد آركون أنّه ينبغي أن نقرأ قوله تعالى: ((لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ))([25])بعد الاطلاع على وضع المرأة في السياق التاريخي الذي نزلت فيه الآية الكريمة، فحكم الآية انعكاس له ولا يمكن أن تكون عابرة للزمان والمكان([26])، وتعود فكرة ربط النصوص بالدوافع التاريخيّة المنبثقة من زمان ومكان محدّدين، وتقييدها بهما إلى الفيلسوف الألماني كادامير (2003م)([27])، ولا شكّ في أنّ تطبيقها على النص القرآني ينتهي إلى القول بنسبيّة الأحكام القرآنيّة، وانسجامها مع أحوال القرن السابع الميلادي فقط، وهذا ما يتنافى مع عالميّة الرسالة الخاتمة وهدف القرآن الكريم في الهداية وتنظيم الحياة البشرية([28]).

مصادر مونتغمري الاسلامية:
كانت مصادره التي اعتمدها قد أثّرت في تكوين نظرة ناضجة أكثر، إذ إنّها قليلة، فقد اعتمد القران الكريم المترجم، وسيرة ابن هشام المترجمة، وصحيح البخاري، وطبقات ابن سعد، وبعض كتب التاريخ العام، وكتابات غربيّة متعدّدة عن النبي 9، وربّما أفاد من كتابات الغزالي، التي لا تسعفه كثيرا في موضوعه، وخلت قائمة مصادره من مصادر أخرى مهمّة، كما خلت من مصادر الشيعة الاماميّة تماماً التاريخيّة والروائيّة، ويبدو أنّ هذه الاشكاليّة المنهجيّة وسمت أغلب المستشرقين في أعمالهم الكتابيّة عن رسول الله 9 وعن الإسلام وتشريعاته.
مضافا إلى ذلك فإنّ سيرة ابن هشام ليست نهائيّة ولا حاسمة، وفيها الغث والسمين الذي ينبغي أن يتعامل معها الباحث بمعايير خاصّة في النفي والاثبات والتشكيك، كما أنّ مراجعة تفاسير القرآن الكريم بنوعيها السنّي والشيعي له أثر مهم في حسم التصورات الصحيحة أو القريبة من الواقع في فرز الموضوعات التاريخيّة التي تتنافى مع القرآن الكريم، فمثلاً نجد أنّ مونتغمري تقبّل قصّة الغرانيق العلى أو ما يسمّيها بـ(الآيات الشيطانيّة) كمسلّمة تاريخيّة، وإن حاول تسويغها –بذكاء- بما لا يتنافى مع التوحيد الذي بشّر به النبيّ 9 ([29])، وقد أدّى التسليم بهذه القصّة من دون تحقيقها وتمحيصها أن يستنتج منها أنّ فكرة التوحيد لم تكن بعد متبلورة عند النبيّ9!، وأنّ النبيّ كان على استعداد لقبول عبادة كائنات أخرى أدنى من الله!([30])، بل جعل (الآيات الشيطانيّة) تاريخاً أرّخ بها موعد الهجرة إلى الحبشة بأنّه كان بعد نسخها([31])وهذا من تأثير نظرية فلسفة العلم التي ترى أنّ المعرفة الدينيّة تاريخيّة، وأنّها تنمو كما ينمو الكائن الحي، وتتطوّر تدريجيّاً([32]). كما تقبّل فكرة أنّ آباء النبيّ وأجداده كانوا كفّاراً، وأنّ النبيّ 9 صرّح بأنّ عبد المطلب في النار، وكان هذا التصريح أحد الأسباب المهمّة التي أجّجت عداوة عمّه أبي لهب([33])، وكان يمكن أن يتجاوز هذه الموضوعات الروائيّة وما يترتّب عليها من مضاعفات، فيما لو اطلّ على مصادر التاريخ والتفسير والحديث عند الاماميّة التي تسفّه بالدليل القاطع (قصّة الغرانيق العلى) وتجمع بالبرهان على إيمان آباء النبيّ 9.
وفي هذا السياق أرسل مونتغمري فكرة أنّ رسول الله لم يفكّر في مستقبل قيادة الدعوة بعد وفاته إرسال المسلّمات([34])، وهذا يتناقض مع تحليله المستمر في أنّ النبي9 كان له أهداف استراتيجية وبعيدة المدى في تحركاته، من ذلك مثلاً، ذهابه بجيش كبير إلى دومة الجندل، فقد استغرب مونتغمري من هذه الغزوة التي لا يرى لها مبرّرا عسكريّاً أو سياسيّاَ، ولكنّه أزال استغرابه باستنتاج تخميني من الصعب تجنّبه –على حدّ قوله- أنّ ثمّة علاقة بين هذه الغزوة والفتوحات اللاحقة التي جرت بعد وفاته، فقد كانت دومة الجندل الطريق التي مرّت على طولها الجيوش الاسلاميّة لقهر الامبراطوريّة البيزنطيّة([35]). وتحدّث عن مهارة النبيّ الاداريّة وحكمته في اختيار الناس كمندوبين في الأمور الإدارية التفصيليّة، فلا يمكن –والكلام لمونتغمري- للمؤسّسات والسياسات السليمة الاستمرار، اذا كان القيام بتنفيذها يتمّ على نحو خاطئ ومتخبّط،([36]) ومع هكذا تحليل لمديات تفكير النبيّ وبراعته في الإدارة، فكيف ينحسر عن قضيّة مفصليّة وخطيرة، أعني بها عدم تفكير النبي بمستقبل قيادة الإسلام، وكيف يحدث ذلك والنبيّ يدرك أنّ عدداً معتدّا به من القبائل العربية دخلت الإسلام في اليمن ومكّة والبحرين والطائف وحوالي مكّة بسبب هيبة محمّد 9 وطمعا في تحالف قوي يضمن سلامتها، وأنّها بمجرد زواله قد ترتدَ وتشكّل خطرا بأثر رجعي على الإسلام، زد على ذلك الطامحين إلى مقاليد الحكم، ولذا فليس من الغريب أن تتسلّم عائلة أبي سفيان العدو اللدود للإسلام قيادة الأمّة الاسلاميّة بعد خمسين سنة من وفاة النبيّ 9 والتي معها بدأ العدّ التنازلي عمليّا للأمّة الاسلاميّة بوصفهم حضارة ودولة كبرى سياسيّا ودينيّاً.

وفي هذا السياق يؤخذ على مونتغمري إغفاله الحديث عن حادثة (يوم الدار) التي تعدّ مفصلاً مهمّا في دلالتها في النظام السياسي الوليد مع الدعوة الاسلاميّة، واغفاله هذا أوقعه في التقليل من أهميّة أن يكون عليّا 7 هو أوّل من أسلم؛ لأنّه كان صبيّاً! فيما رجّح أن يكون زيد بن حارثة هو أوّل مسلم من الرجال كونه كان في الثلاثين من عمره، وكان يظهر محبّة وولاءً للنبيّ بما يفوق حتّى علي! ([37])، ولا نعلم متى كان السنّ معيارا في تقويم الرجال، وهل أنّ طفولة المسيح تقلّل من أهميّته اللاهوتيّة في مقابل رجال الدين اليهود من الشيوخ والكهول؟ ،ثمّ جاء اغفاله عن حادثة الغدير مكمّلة لحلقات الاغفال تلك، على الرغم ممّا فيها من بُعد سياسيّ واجتماعي تؤهّلها للنظر والتحليل في سياق الدعوة الإسلامية وآفاقها المستقبليّة، على الرغم من أنّه عطف الحديث عن حجّة الوداع، وكلّ ما ذكره عن عليّ 7 في كتابه: أنّ النبيّ كان مولعاً بابن عمّه الأصغر عليّ بن أبي طالب...إلّا أنّه أدرك من دون شك أنّ عليّاً لم يكن مؤهّلا لأن يغدو رجل دولةٍ ناجحاً([38])! وهكذا جاء رأيه منحازاً وغير موضوعي، ومبتسراً على خلاف عادته في الوقوف على الأحداث وتحليلها، كما لم يحلّل النمط الحجاجي الذي أفرزه الاختلاف حول خلافة النبيّ 9 في سقيفة بني ساعدة والنبيّ لمّا يدفن، وأشار فقط إلى حصول ضوضاء في مسألة الخلافة حتّى تمّ التوافق على أبي بكر([39]).

رأي مونتغمري في شخصيّة النبي 9:
يقرّر لنا مونتغمري حقيقةً لمسها عن النبيّ محمّد 9 وهي: لم يحدث أن تمّ الافتراء على أيّ من رجال العالم الكبار كما افتري على محمّد 9. بسبب العداء له ولرسالته([40]).
لم يقبل ما قيل أنّ النبيّ محمّداً كان قاسي القلب وخشناً، ورأى أنّ لطفه مع الأطفال، وكثرة أصدقائه منهم، وبكاءه على الأيتام الذي قتل أبوهم في المعارك، شاهدٌ على رقّة شعور النبيّ 9 ([41])، بل امتدّ لطف النبيّ 9 حتّى طال الحيوانات([42]).
رفض بضرس قاطع الوصف الذي أسبغه منتقدو النبيّ 9، وخاصّة في فترة القرون الوسطى، حيث قامت أوروبا بتحريف اسم النبيّ 9 إلى "ماهوند mahound" وهو اسم للشيطان، وعدّ مونتغمري هذا النوع من السلوك ردّا انفعاليّاً بسبب التمدّد الإسلامي الذي ضمّ مولد المسيحيّة في سوريا ومصر، وعدّ تلك الأفكار من (البروباغندا) الشائعة في التبشير المسيحي([43])، وهي تعني الترويج الذي يعتمد على التأثير في نفس المتلقي من خلال معلومات انتقائيّة، ومن دون موضوعيّة([44])، واستخفّ بتفسير بعض المستشرقين بأنّ حالات النبيّ 9 مع الوحي ما هي إلّا إصابة بمرض (الصرع) ، وكان من السهل على مونتغمري ردّ هذه الاكذوبة باعتبار أنّ الصرع يؤدّي إلى تدهور بدني وعقلي، ولا يتفتّق عن تشريعات جديدة وأحكام للهداية والتنظيم([45])، وكذلك رفض بقوّة ما قيل عن النبيّ من أنّه دجّال ومحتال، أراد أن يرضي طموحاته بالسلطة من خلال تعاليم دينيّة اخترعها ليخدع الآخرين بها([46])، مع أنّه – أي النبيّ نفسه-لم يكن مؤمناً بها. وقد ردّ هذه الدعوى بطريقة علمانيّة تارةً وطريقة دينيّة، وحاصل الأولى أنّه لا يمكن أن يكون نجاح محمّد 9 في بناء دولة وحضارة وولاء الملايين من الناس له عبر القرون على دجلٍ وأفكار لم يكن مؤمناً بها. وحاصل الثانية: أنّه كيف يسمح الرب لدين عظيم مثل الإسلام أن ينمو ويتطوّر على قواعد من الكذب والخداع([47])؟

ورفض مونتغمري أيضاً الاتهامات التي وصفت النبيّ بأنّه كان شهوانيّاً ويبحث عن اللذائذ الجنسيّة مع النساء([48]).
أكّد مونتغمري أنّ النبيّ محمّدا 9 لم يكن صاحب دعوة دينيّة فحسب، بل أنّه جاء بنظام اقتصادي واجتماعي وسياسي، وكان الدين في ذلك النظام يشكّل جزءاً تكامليّاً، وأضاف في موضع آخر، أنّ الأنظمة الاجتماعيّة التي وضعها تنسجم وتتكيّف مع عددٍ من الظروف البيئيّة المختلفة في العالم، واستمرت على مدى ثلاثة عشر قرناً([49])، وكان قد عدّ في موضع سابق أنّ نموّ الديانات العظيمة في العالم يعود إلى قدرتها على تكييف مبادئها للتطبيق في بيئات مختلفة، وأنّ النبيّ 9 بالنظر إلى براعته وحكمته استطاع أن يكيّف أفكاره في ظروف وبيئات مختلفة، وكانت هذه واحدة من أسس نجاحاته([50]).
وفي جواب سؤال طرحه مونتغمري، هل كان محمّد نبيّا؟ أجاب ما نصّه: أنّه ليس كل الأفكار التي جاء بها محمّد حقيقيّة وصحيحة، إلّا أنّه من خلال نعمة الربّ وفضله عليه، تمكّن من تقديم دينٍ أفضل لملايين الناس، أكثر ممّا كانوا عليه من قبل أن يشهدوا: لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله([51]). وهذه شهادة ضمنيّة من مونتغمري أنّه يصدّق بدعوى النبي 9 في نبوّته، وأمّا ما أفاده من أنّ بعض ما جاء به النبيّ 9 لم يكن صحيحاً فهذا أوّلا يتناقض مع الاعتقاد بأنّه نبيّ مرسل من الله تعالى، كما إنّه لم يحدّد بالضبط غير الصحيح هذا، هل هو في القرآن الكريم، أو في السنّة النبويّة، وأرجح الظن أنّه يعني السنّة النبوية، وتصوّره ناشئ من الطريقة الخاطئة التي تعامل بها مع السنّة النبوية على ما أشرنا إليه آنفاً.
أورد مونتغمري تعريضاً واضحا عن تقصير المسلمين بتقديم الصورة الأفضل والكاملة عن قضيّتهم لبقيّة العالم، من خلال تقصّي (الكوني) في حياة محمّد9، أو إظهار حياة النبيّ بوصفها نموذجاً مثالياً ممكناً للإنسانية كلّها، تسهم في التطوّر الأخلاقي للبشريّة، فعند ذلك سيكون لبعض المسيحيين القدرة على الاستماع والتعلّم([52])،([53]).
وأحسب أنّ مونتغمري من خلال هذا التعريض يشعر وجداناً أنّ ذلك في حيّز الإمكان وأنّ شخصيّة النبي الأعظم 9 مؤهّلة لأن تكون قدوةً عالميّة. وهذا ما أكّده القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾([54])، وبقوله عزّ وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾([55]).

---------------------------------

هوامش البحث

([1]) - الاستشراق، إدوارد سعيد/39. مؤسسة الابحاث العربية، الطبعة العاشرة2010.
([2]) - ينظر: مقدّمة في علم الاستغراب، د. حسن حنفي/15. الدار الفنيّة1991.
([3]) - ينظر: الاستشراق/39.
([4]) - ينظر: محمّد النبي ورجل الدولة/314.
([5]) - ينظر: المصدر نفسه/137، 152.
([6]) - ينظر: المصدر نفسه/168.
([7]) - ينظر: المصدر نفسه/257، 304.
([8]) - ينظر: المصدر نفسه/224.
([9]) - ينظر: المصدر نفسه/295.
([10]) - تعني فلسفة العلم التفسير العلمي للأنشطة الانسانيّة كالدين والتاريخ والاساطير، وتعنى بفهم موضوعي لها، تبيّن ما هي عليه فقط، ولا علاقة لها بالقيمة التي تطلقها تلك الأنشطة، وتعتمد في الأساس على دور القوانين الطبيعيّة وتأثيرها على السلوك الانساني، وربط تلك الأنشطة بتلك القوانين، تماما مثلما يقوم الفيزيائي بتفسير سبب زرقة السماء، فإنّه من خلال القوانين التي لها علاقة بزرقة السماء يقوم بتحليل علل الظاهرة ولماذا أصبحت هكذا، فالتفسير العلمي هو الذي يكوّن علاقة موضوعيّة بين الظاهرة وعللها. ينظر في ذلك: فلسفة العلم مقدمة معاصرة/47،56،60. أليكس روزنبرج، ترجمة: أحمد عبد الله السماحي، فتح الله الشيخ. المركز القومي للترجمة، الطبعة الاولى2011.
([11]) - أشار مونتغمري استطراداً إلى هذه المنهجيّة في كتابه/247.
([12]) - ينظر: المصدر نفسه/70.
([13]) - ينظر: المصدر نفسه/14.
([14]) - ينظر: المصدر نفسه/56.
([15]) - ينظر: المصدر نفسه/60.
([16]) - ينظر: المصدر نفسه/98.
([17]) - ينظر: المصدر نفسه/110.
([18]) - ينظر: المصدر نفسه/117.
([19]) - ينظر: المصدر نفسه/316.
([20]) - ينظر: المصدر نفسه/126.
([21]) - ينظر: المصدر نفسه/147.
([22]) - ينظر: القواعد والفوائد، محمّد ابن مكّي العاملي (786ه)، تحقيق الدكتور السيّد عبد الهادي الحكيم، مطبعة الآداب النجف الأشرف 1980.
([23]) - ينظر: المصدر نفسه/169.
([24]) - ينظر: القرآن من التفسير الموروث إلىتحليل الخطاب الديني، محمّد آركون، ترجمة هاشم صالح/14، دار الطليعة بيروت، الطبعة الثالثة2012.
([25]) - سورة النساء:10.
([26]) - ينظر: التشكيل البشري للاسلام، ترجمة هاشم صالح/146، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى2013.
([27])- ينظر: اشكاليات القراءة واليات التأويل/37-42، الدكتور نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي.ط9/2012.
([28]) - من الكتب التي عالجت هذه الفكرة معالجة مستوفية كتاب (المعرفة الدينيّة في نقد نظرية د. سروش) الشيخ صادق لاريجاني، دار الهادي، بيروت، من دون تاريخ. وكتاب (العلمانيون والقرآن الكريم، تاريخية النص) الدكتور أحمد ادريس الطعان، مكتبة ودار ابن حزم للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى2007.
([29]) - ينظر: المصدر نفسه/32،41،46،82.
([30]) - ينظر: المصدر نفسه/42.
([31]) - ينظر: المصدر نفسه/88.
([32]) - ينظر: القبض والبسط في الشريعة، د. عبدالكريم سروش/37، دار الفكر الجديد، النجف الاشرف، الطبعة الأولى.
([33]) - ينظر: محمّد النبيّ ورجل الدولة/103.
([34]) - ينظر: المصدر نفسه296.
([35]) - ينظر: المصدر نفسه/207، 285.
([36]) - ينظر: المصدر نفسه/308.
([37]) - ينظر: المصدر نفسه/51.
([38]) - ينظر: المصدر نفسه/300.
([39]) - ينظر: المصدر نفسه/296.
([40]) - المصدر نفسه/301.
([41]) - ينظر: المصدر نفسه/300.
([42]) - المصدر نفسه/301.
([43]) - ينظر: المصدر نفسه/15.
([44]) - ينظر: موقع ويكيبديا الموسوعة الحرة. وتحدّث عن مظاهرها نعوم جومسكي في كتابه: ماذا يريد العم سام؟/47.
([45]) - ينظر: محمّد النبي ورجل الدولة/34.
([46]) - المصدر نفسه/303، وينظر: المستشرقون والدراسات القرآنيّة، د. محمد حسين الصغير/14.
([47]) - المصدر نفسه/303.
([48]) - ينظر: المصدر نفسه/ 201-203.
([49]) - المصدر نفسه/ 292
([50]) - ينظر: المصدر نفسه/128.
([51]) المصدر نفسه/312.
([52]) - المصدر نفسه/306.
([53]) - لم يعش مونتغمري ليرى النموذج الذي قدّمه بعض المسلمين لعكس صورة الإسلام ونبيّه للعالم، وربّما سيتأسّف كثيراً، أعني نموذج القاعدة وداعش، اللتين برهنتا –وربّما عن عمد- للكتّاب الغربيين الذين اتهموا النبي والإسلام بقبيح الأوصاف: الجريمة والغلواء الجنسي، فقد جسّد سلفيّو القاعدة وداعش عملياً هاتين الصفتين عبر هوس قطع الرؤوس وجهاد النكاح.
([54]) - سبأ:28.
([55]) - الأنبياء:107.