البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المستشرق هـ - ريتر ومقدمته عن أصول البيان العربي قراءة في ضوء الاستشراق الألماني

الباحث :  أ.د. حامد ناصر عبود الظالمي/ جامعة البصرة – كلية التربية
اسم المجلة :  دراسات استشراقية
العدد :  6
السنة :  السنة الثالثة - شتاء 2016 م / 1437 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 26 / 2016
عدد زيارات البحث :  5202
تحميل  ( 624.186 KB )
المستشرق هـ - ريتر
ومقدمته عن أصول البيان العربي
قراءة في ضوء الاستشراق الألماني

■  أ.د. حامد ناصر عبود الظالمي(*)

يعتقد الباحثون في تأريخ الاستشراق أو الذين كتبوا عن الاستشراق الألماني خاصة انه يركز على الدراسات اللغوية والأدبية والقرآنية والدراسات الإسلامية أكثر من تركيزه على العلوم الأخرى وإن كان هذا الأمر متفاوتاً من مستشرق لآخر، ولكن المهم في الأمر كذلك هو أن الدراسات الاستشراقية للغة العربية جاءت متأثرة بمدرسة سلفستر دي ساسي (1758 – 1838) أهم المستشرقين الفرنسيين، وإن هذا النزوع نحو دراسة اللغات توارثهُ المستشرقون الألمان فيما بعد وإن سلفستر دي ساسي كان قد (تولى إدارة مدرسة اللغات الشرقية الحية التي أنشأتها الثورة الفرنسية عام 1795 لمنافسة المؤسسات الجامعية البريطانية العريقة في عمليات الصراع على الشرق من خلال إنتاج خبراء بلغاته وشعوبه وتأريخه وجغرافيته، وكتب دي ساسي كتاباً في النحو العربي، ثم كتب كتاباً مدرسياً بعنوان منتخبات من آداب العرب – وقد ظل كتاباه هذان معتمدين حوالي نصف قرن حتى حلّت محلهما الكتب التي ألفها تلامذتهُ الألمان وهم: فلهلهم فرايتاغ (1788- 1861) وهاينرش فلايشر (1801 – 1888) وغوستاف فليجل (1802 – 1870) فالأول عادَ من باريس ودرّس وألّف المعجم العربي اللاتيني الذي ما زال مستعملاً إلى اليوم ونشر فليجل طبعةً من القرآن الكريم وصحيح البخاري وفهرست ابن النديم وكشف الظنون. أما فلايشر فقد تولى كرسي الدراسات العربية في لايبزيغ وخَلَفَهُ بعده تلميذه أوغست فيشر (1865 – 1949) الذي أسس الجمعية الشرقية الألمانية، ولكل من فلايشر وتلميذه فيشر مؤلفات في النحو وفقه اللغة، وفيشر صاحب مشروع المعجم التاريخي للغة العربية)([1]).
وهكذا وتأسيساً على النزعة الموجودة عند الدارسين الألمان وليس عند المستشرقين فقط فإن الاهتمام بالجانب اللغوي واللغات السامية ودراسة عقلية الشعوب في ضوء لغاتها كان ديدن الباحثين الألمان، إذ يُعدّ هؤلاء أكثر المهتمين بهذا الجانب لأنّهم اهتموا بالفروق العقلية بين الأمم وانعكاساتها على اللغة والعكس كذلك([2]).
وتطورَ الأمر بعد ذلك فاهتم الألمان وخاصة انطوان شبيتالر بإصدار المعاجم العربية وترجم وليم إدوارد لين (1801-1876) (تاج العروس)، وأكمل دوزي ملحق القواميس العربية، واهتم فلايشر بعمل دوزي في تكملة المعاجم العربية وخاصة في الكلمات العربية المستحدثة([3])، ونترك دراسات المستشرقين الألمان للغة القرآن الكريم لبحث آخر كتبناه في هذا الموضوع إذ يُشكل موضوع دراسة لغة القرآن والدراسات الإسلامية المحور الثالث من اهتمام المستشرقين الألمان بعد المحور الأول الذي يهتم بفقه اللغة والأدب، أما المحور الثاني فهو للدراسات التأريخية، ولكن الأدلة تؤيد أن المحور الأول والثالث هما الأكثر شيوعاً في الدراسات الألمانية. لذا يُقسم بابر يُهنسَن في بحثه الموسوم الدراسات الإسلامية الشروط الفكرية والسياسية لفرع معرفي([4]) تلك المحاور بقوله (في القرن التاسع عشر يمكن تمييز ثلاثة محاور رئيسة للتطور ضمن الدراسات الشرقية: الأول هو محور فقه اللغة العربية ممثله هاينريش لبرشت فلايشر الذي تَسلّم من عام 1835 – 1888 كرسي الدراسات العربية في مدينة لايبتسغ – أمضى أكثر من أربعة أعوام في فرنسا (1824 – 1828) يدرس اللغة العربية والفارسية مع سيلفستر دي ساسي، إنه بلا شك مؤسس فقه اللغة العربية في ألمانيا من خلال أكثر من خمسين عاماً التي تسلّم فيها الكرسي في لايبتسغ، وهكذا بقيَ فقه اللغة العربية حجر الزاوية للتراث الاستشراقي الألماني في ميدان الدراسات العربية والإسلامية)([5]).
والى هذا الاتجاه ينتمي هـ ريتر في كثير من كتاباته وينتمي له كارل بروكلمان (تلميذ فيشر ونولدكه والذي كان مثلهما في الإصرار على تمثيل الدراسات السامية والعربية ولذلك فقد ألّف في نحو اللغات السامية وفقهها كما ألّف في النحو العربي وقد ترجم رمضان عبدالتواب تلميذ رودلف زلهايم الذي خَلَفَ هلموت ريتر في فرانكفورت كتاب بروكلمان هذا في السبعينات... وعمل بروكلمان أربعين عاماً في كتابه تأريخ الأدب العربي...)([6]). وقام الدكتور عبدالحليم النجار بترجمة كتاب بروكلمان تأريخ الأدب العربي إلى العربية، والدكتور النجار كما يقول عنه الدكتور جواد علي (من خريجي الجامعات الألمانية وهو زميل عشت معه زمناً في برلين ودرسنا معاً في معهد واحد اللغة الألمانية، وهو زميل الأساتذة الأزهريين الفضلاء المتعمقين في الدراسات الإسلامية)([7]).
وفي ضمن هذا المحور فقه اللغة والأدب العربي بصورة عامة (كانت تأثيرات المستشرقين الألمان الأهم متمثلة في نشراتهم للنصوص الأدبية القديمة مثل عيون الأخبار والكامل للمبرد والاشتقاق لابن دُريد وجزء من الأغاني ومع ذلك فعندما قام الدكتور عبدالحليم النجار في الخمسينات بترجمة دراسة يوهان فك (العربية) شكل ذلك تقدماً لافتاً في مجال الدراسات الفيلولوجية وقد كان مقصد فِك تصحيح ما وقع فيه فوللرز الذي عدّ العاميات لغات مستقلة كما عدّ لغة القرآن دارجة قريش لكنه أفاد أيضا من الدراسات السامية المقارنة ومن ألسنية سوسير)([8])، ويأتي في هذا المحور دور براجستراسر (1886 – 1933) الذي درّس اللغة والنحو العربي وتحقيق النصوص في القاهرة وما كتابه التطور النحوي الذي ترجمهُ الدكتور رمضان عبدالتواب وكتابه في التحقيق ونقد النصوص إلا محاضرات ألقاها على طلبته في القاهرة وعُين كلّ من براجستراسر (عضواً في مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق وهارتمان 1851- 1918 وأُغست فيشر 1865 – 1949 وكارل بروكلمان 1868 – 1956 وهلموت ريتر 1892 – 1971 وتولى فيلهلهم شبتا سنة 1875 إدارة دار الكتب المصرية وفهرس مخطوطاتها في نحو أربعين صفحة)([9]).
هذا الأمر لم يكن مصادفة بل انه تم الاتفاق ما بين مصر وبعض من الدول الأوربية (عام 1870 بأن يكون مدير المكتبة الخديوية بالقاهرة عالماً ألمانياً وكان أول مدير لها هو المستشرق شتيرن الذي خلفه أربعة مدراء كان آخرهم المستشرق شاده قبل بداية الحرب العالمية الأولى وعندما تأسست الجامعة المصرية على يد الأمير أحمد فؤاد عُين المستشرق ليتمان أستاذاً للغة العربية فيها وعميداً لكلية الآداب 1910 – 1912)([10]) ومن تلامذته طه حسين ودرّس بعد ذلك سنة 1929 وخلفهُ أخيراً براجستراسر 1933 وشاخت([11]).
ومن المستشرقين الألمان الذين ينتمون في دراساتهم لهذا المحور وهم كُثر نذكر يوليوس فلهاوزن استاذ اللغات الشرقية والشعر العربي القديم والمعتقدات وفريدريش ريكرت وكان أستاذا للغات الشرقية وترجم أعمالا رائعة، وج.ف.فرايتاج (1788-1861) الذي ألّف المعجم العربي اللاتيني بأربعة أجزاء وكان أستاذا في جامعة بون. وفيلهلم جزينوس الذي وضع أبحاثاً رائدة في البحث اللغوي في اللغات السامية وهو أستاذ في جامعة هاله([12]). ولذلك يقول اينوليتمان في بحثه المساهمة الألمانية في علم الشرق الأدنى([13]) (وقد اعتقد أحد الانجليز قبل الحرب العالمية بأن العالم مُقسّم بين انجلترا وفرنسا أما الألمان فعليهم كتابة نحو اللغات الأجنبية)([14]).
أما المحور الثاني في الدراسات الاستشراقية الألمانية فهو (محور التأريخ القائم على المنهج النقدي التأريخي لفحص المصادر... وقد أدخله إلى الدراسات الشرقية يوليوس فلهاوزن 1844 – 1918 (دارون التأريخ التوراتي) ونُشرت كتبه الرئيسة بين عامي 1878 – 1902) واحتل مكانه بثبات في تراث التأريخانية الألمانية التي طورها بارتولد غيورغ نيبور 1776 – 1831 وليوبولد فون رانكه 1795 – 1886)([15])، هذا المحور ليس من اهتمامنا في هذا البحث ولكنه يبقى مؤثراً في الثقافة العربية والإسلامية فالدكتور جواد علي صاحب مشروع التأريخ العربي قبل الإسلام الذي كان محوره كتابه المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام بعشرة مجلدات هو أحد تلامذة هذا المحور، إذ إنّ بحوث الألمان عن التأريخ العربي القديم كما يقول الدكتور رضوان السيد (لقيت اهتماماً لدى الذين تخصصوا بالدراسات السامية بألمانيا في الخمسينات والستينات مثل يحيى نامي والسيد يعقوب بكر فقد ترجموا إلى العربية التأريخ العربي القديم في الخمسينات وهو عبارة عن مجموعة دراسات من أعمال على الساميات والرحالة والمؤرخين الألمان عن الجزيرة العربية وجنوبها، لكن اكبر الإفادات من بحوث الألمان في التأريخ العربي القديم تمت على يد الدكتور جواد علي صاحب المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام، فقد رجع إلى 26 كتاباً وحوالي 400 مقالة للباحثين الألمان من بوركهارت وغلازر والى هوّمل وماريا هوفنر ورود كاناكس وألتهايم وما يزال الذين يؤلفون الكتب المدرسية للجامعات عن تأريخ العرب القديم يرجعون إلى دراسات هؤلاء العلماء عبر كتاب جواد علي دونما ذكر له في كثير من الأحيان)([16]).
أما المحور الثالث وهو محور الدراسات الإسلامية فقد كان (هاينريش بكر 1876-1931 أول باحث يتسلم كرسياً للدراسات الإسلامية وهذا الكرسي تم تأسيسه في عام 1908 في المعهد الكولونيالي بهامبورغ..)([17])، وعمل في هذا المحور أي: الدراسات الإسلامية كثيرون ولكن تخصص فيه مجموعة لها دراسات أثرت في الثقافة العربية، من هؤلاء المستشرق الألماني آدم متز وكتابه الذائع الصيت الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري الذي ترجمهُ محمد عبدالهادي أبو ريده وقد (أفاد منه جرجي زيدان عندما وضع كتابه التمدن الإسلامي عشية الحرب الأولى)([18]) عندما لم يكن الكتاب مترجماً وهو حال كتاب يوهان فك (تأريخ حركة الاستشراق) الذي ترجم ([19]) في التسعينات من القرن العشرين إذ يقول عنه الدكتور رضوان السيد (إننا ظللنا نرجع جميعاً إلى كتاب نجيب العقيقي (المستشرقون) وأكثر من نصف مادته مأخوذة عن كتاب فِك)([20]) واعتقد أن هذا الرأي فيه تحامل كبير على كتاب نجيب العقيقي فالكتاب يقع في ثلاثة مجلدات كبيرة وأحدها يعادل كتاب فك، وكتاب فك يؤرخ للحركة الاستشراقية حتى بداية القرن العشرين في حين أن كتاب العقيقي يمتد إلى أكثر من ذلك وهو مرجع مهم جدا.
ويُعد كتاب المستشرق الهولندي دي بور الذي يكتب باللغة الألمانية (تأريخ الفلسفة في الإسلام) من الكتب التي راجت ودُرست كثيراً في أروقة الثقافة العربية والإسلامية (وظل هذا الكتاب مستعملا في الجامعات العربية وترجم أبو ريده فيما بعد دراستين مهمتين من المستشرقين الألمان وهما مذهب الذرة عند المسلمين وفلسفة الرازي للمستشرق لبيتنز وكتاب مذهب الجوهر الفرد عند المتكلمين الأولين في الإسلام للمستشرق أوتو برتزل(1946)([21]).
ويُعد الدكتور محمد البهي من الدارسين العرب الأوائل الذين تأثروا بالمدرسة الألمانية وأثّر كذلك في الثقافة العربية (فقد كان وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر 1962 – 1964 وهو من خريجي ألمانيا أواسط الأربعينات وقد أرسل مجموعة شباب للدراسة بمنحٍ في ألمانيا ومن بينهم محمد زقزوق وكانت أطروحته دراسة مقارنة بين ديكارت والغزالي وكتب مقالات عن كتاب رودي بارث محمد والقرآن وكتب الاستشراق والصراع الحضاري)([22]). وكما مر بنا أن المستشرق الهولندي دي بور كتب دراساته باللغة الألمانية يتكرر الحال مع المستشرق اجناس كولدتزهير المجري الذي كتب جُلّ مؤلفاته باللغة الألمانية كذلك([23])، ومن كتاباته المترجمة كتاب العقيدة والشريعة في الإسلام وكتاب مذاهب المفسرين وغيرها كثير، و(من المتأثرين بالاستشراق والفكر الألماني الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي ترجم جوته وهيدجر وترجم كتاب هانز شيدر روح الحضارة العربية وكتب عن الفلاسفة الألمان شلنغ وهردر وشيللر وشبنهاور وهومبولت)([24]).
ليست مصادفة أن يكون للاستشراق الألماني هذه الأهمية الكبيرة في الثقافة العربية وهذا الانتشار الواسع لدراساته ليس بفضل كثرة النتاج الاستشراقي الذي يتجاوز آلاف الكتب وعشرات الآلاف من المقالات والدراسات عن الثقافة العربية ونظرة سريعة على كتاب (المستشرقون) لنجيب العقيقي يتبين لنا حجم ذلك، أي: كثرة أعداد المستشرقين وكثرة النتاج الاستشراقي وعشرات المعاهد والمراكز البحثية المهتمة بالدراسات العربية والإسلامية، ليس هذا هو المهم فقط بل المهم كذلك حيادية الاستشراق الألماني الذي لم تؤثر عليه السياسة أو أن يكون تابعا لها أو تابعا لاتجاهات فكرية معادية للعقل العربي، بل إنّ الاستشراق الألماني كما يقول المستشرق فيشر (لم ينغمس في المصالح السياسية فحافظ على اكبر قدر من الموضوعية العلمية)([25]) ولهذا تجنّب الدكتور ادوارد سعيد الخوضَ في تجربة المدرسة الألمانية في كتابه الاستشراق ولم ينتقدها كما انتقد غيرها من المدارس الاستشراقية الأخرى، لذلك قال في كتابه (تعقيبات على الاستشراق الصادر عام 1996 أن تجنبه لذكر الاستشراق الألماني يعود إلى أن خطته كانت دراسة الكتابات عن الشرق التي ارتبطت دول الكاتبين فيها بمشروع امبريالي تحديداً وهذا يعني انه ما كان يعتبر الاستشراق الألماني منخرطاً في مشروع استعماري)([26]).
بعد هذا العرض الموجز عن اتجاهات الاستشراق الألماني وأثره واهتماماته وميزاته نتعرض لشخصية المستشرق هـ -ريتر الذي حقق كتاب أسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني وكتبَ عن البلاغة العربية وتأريخها بحثا مهما جدا، فهلموت ريتر (1892-1971) يُعدّ من المستشرقين الموسوعيين والمهتمين باللغة والثقافة العربية والإسلامية وجمع المخطوطات وتحقيق النصوص إذ يُعدّ من كبار المستشرقين الألمان المعاصرين فهو لا يقلّ شأنا عن نولدكه وكارل بروكلمان، وهو يمتاز بتعدد نشاطاته وسعة علمه، فقد ولد عام 1892 في عائلة عُرفت بالعلم والعمل في حقل اللاهوت، ثم درس في جامعة هاله الشهيرة في ألمانيا على يد بروكلمان وبول كاله 1875 – 1964، ثم انتقل إلى جامعة ستراسبورغ حيث كان يدرّس فيها مستشرقان كبيران هما نولدكه وأنوليتمان 1875 – 1958. نال ريتر الدكتوراه في مطلع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 من جامعة بون، ثم انخرط في سلك الجيش وعمل مترجماً في اسطنبول ومنها انتقل إلى العراق وفلسطين لأنه كان يجيد اللغتين العربية والتركية، وهكذا أفاد من تجربته هذه بجمع الأخبار وزيادة ثقافته الشرقية، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أصبح سنة 1919 أستاذا للغات الشرقية في جامعة هامبورغ. بعد ذلك ترجم كتاب الغزالي (كيمياء السعادة) ونشر كتابا عن السحر الإغريقي عنوانه (غابات الحكيم)، كان قد وجد مخطوطته في مكتبة فريبورغ سنة 1921، وفي سنة 1927 عاد إلى اسطنبول وعمل كمدير لمعهد الآثار الألماني فيها واستمر قرابة ثلاثين سنة، ودرّس في جامعاتها كمعيد ثم كأستاذ([27]).
و(شغل هلموت ريتر أستاذ كرسي الإسلاميات بجامعة فرانكفورت حتى أواسط الستينات وتجربته واسعة ومتشعبة بدأت في تركيا ومخطوطاتها العربية والفارسية في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين)([28])، وأشرف هلموت ريتر على (معهد الآثار الألماني في اسطنبول طوال ثلاثين سنة وأنشأ له المكتبة الإسلامية 1918 لتحقيق النصوص الإسلامية ولا سيما العربية فنشرت مجموعة من كتب الأمهات وأسس فيه مجلة أوريانس(*) 1948 ثم اختير عميداً لكلية الآداب في جامعة فرنكفورت 1949 وعندما أُحيل إلى المعاش رجع إلى اسطنبول لاستئناف نشاطه وقد أُقيمت له حفلات تكريم عديدة منها حفلة اسطنبول 1949 وحفلة في جامعة الدول العربية 1957)([29])، وتوقفت مجلة الشرق في الثمانينات بعد أن أصدرها بعده تلميذه رودلف زلهايم عقب وفاته سنة 1971([30]).
بعد تقاعده عام 1957 قامت منظمة اليونسكو بإيفاد ريتر عام 1957 إلى اسطنبول للعمل على فهرسة المخطوطات والدواوين الشعرية الموجودة في مكتباتها، وعاود التدريس في جامعتها، وأمضى أواخر الستينات فترة في بيروت يعمل في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية رغم سوء حالته الصحية وكبر سنه، وفيها كان يكتب كتابه الضخم الذي يتناول لهجة (طورويو) السريانية. وفي سنة 1969 عاد إلى ألمانيا بعد أن ساءت صحته وبقي هناك حتى سنة وفاته 1971([31]).
وفي سنة 1959 حقق ونشر كتاب (مشارق أنوار القلوب ومفاتيح أسرار الغيوب) لابن الدباغ، وفي سنة 1960 دُعي ريتر للمشاركة في الاحتفالات بذكرى مولانا جلال الدين الرومي في قونيه في تركيا، إذ ألقى محاضرة قيّمة عنه وشاهد رقص الدراويش وكتب عنه دراسة مطولة ونشرها في مجلة اوريناس مجلد 15 سنة 1962. ثم انصرف ريتر إلى دراسة لهجة طور عبدين التي يتكلمها اليعاقبة السريان المسيحيون ووضع كتابا بقواعدها وصرفها ومعجمها بترجمة ألمانية وظهر عمله هذا بثلاثة مجلدات ضخمة تحت اسم (لهجة طوريو) التي توشك على الانقراض، نشره المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت بثلاثة أجزاء صدرت على التوالي سنة 1967 و1969 و 1971قبل وفاته بمدة قصيرة([32]).
وعند بلوغه السبعين من عمره لم ينشر ريتر كتابا بهذه المناسبة كما جرت العادة في ألمانيا، فبادر زملاؤه وطلبته بنشر مقالات في مجلة اوريناس (الشرق) احتفالا بذلك، غطّت تلك الدراسات أربعة مجلدات، ولدور ريتر ونشاطه في الدراسات الشرقية عُيّن في سنة 1948 عضوا مراسلا في المجمع العلمي العربي بدمشق. وفي سنة 1955 عُيّن عضو شرف في الجمعية الملكية الآسيوية في لندن، وكان عضوا عاملا في جمعية الأبحاث الإسلامية في بومبي، وفي سنة 1962 عُيّن عضوا في المعهد الألماني للآثار في برلين، وفي هذه السنة دُعي إلى بغداد للمشاركة في الاحتفال بذكرى الفيلسوف العربي الأول الكندي. وفي سنة 1964 عُيّن عضو شرف في الجمعية الشرقية الأمريكية في نيوهافن وعضوا مراسلا في الأكاديمية الملكية في برشلونة، وأصبح في سنة 1966 عضوا في الأكاديمية البريطانية في لندن، ومُنح لقب دكتوراه شرف من جامعة اسطنبول، كما أصبح سنة 1969 عضو شرف في جمعية المستشرقين الألمان وعضوا في المجمع اللغوي التركي في انقرة([33]).
ويُعدّ فؤاد سزكين التركي الأصل مؤلف كتاب التراث العربي الذي ينافس كتاب تأريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان من أهم طلبة ريتر، ففؤاد سزكين يتولى إدارة معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة فرانكفورت وقد شرع بتأليف كتابه بمساعدة أستاذه ريتر، وتُرجم كتابه إلى اللغة العربية في المملكة العربية السعودية بإثني عشرَ مجلداً([34]).
ومن تلامذة ريتر المستشرق واللغوي ولف ديترخ فيشر، ففي مقابلة معه يقول عن أستاذه ريتر (تتلمذتُ في جامعة فرانكفورت على هلموت ريتر وهو مشهور كمصحح نصوص تراثية وحقق كثيراً من الكتب القديمة وكان الأستاذ ريتر من أهم المتخصصين في الدراسات الإسلامية فيما يخص مثلاً تأريخ الكلام وطائفة معينة مثل الحروفيين والحروفية انتشرت وكانت تُعلّم أن لكل حرف معنى عميقاً فلسفياً... وكان مهتماً بالتعاليم الصوفية خاصة إلى جانب تحقيق الكتب ونشرَ كتاباً كبيراً بالألمانية عن أفكار فريد الدين العطار)([35])، وكتابه هذا عن فريد الدين العطّار المسمّى بحر الروح يقول عنه الدكتور رضوان السيد (أراد به منافسة حلاّج ماسينيون دون أن ينجح في ذلك)([36]). ومن اهتمامات ريتر كذلك الدراسات الجغرافية والتجارية فقد (وضع خريطة جديدة لمدينة بغداد ودرس الحياة الشعبية واللهجة العربية لبلاد الرافدين)([37]) وألّف عن علم التجارة عند العرب([38]).
ونعرض هنا ما كتبه نجيب العقيقي عن مؤلفات ريتر([39]):
نشر كتاب (غاية الحكيم وأحق النتيجتين بالتقويم) المنسوب إلى أبي القاسم المجريطي متناً وترجمةً للألمانية. هامبورغ سنة 1927.
نشر كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) للأشعري، الجزء الأول، في 300 صفحة (المكتبة الإسلامية للجمعية الشرقية الألمانية، اسطنبول، سنة 1929).
نشر كتاب (الوافي بالوفيات) للصفدي، وهو يتضمن أربعة عشر ألف ترجمة الجزء الأول في 370 صفحة عدا المقدمة وفيه ترجمة الرسول وتراجم مَنْ سُمّي بمحمد بن محمد ومحمد بن إبراهيم (المكتبة الإسلامية للجمعية الشرقية الألمانية في اسطنبول سنة 1931).
نشر كتاب (فرق الشيعة للنوبختي) المكتبة الإسلامية للجمعية الشرقية الألمانية في اسطنبول سنة 1931.
نشر كتاب (الإشارة إلى محاسن التجارة لأبي الفضل جعفر الدمشقي) ثم ترجمهُ إلى الألمانية.
نشر كتاب (إلهي نامه لازكغنار فريد الدين العطار)، المكتبة الإسلامية للجمعية الشرقية الألمانية في اسطنبول سنة 1940.
نشر كتاب (أسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني)، اسطنبول سنة 1954.
ومن بحوثه المنشورة في مجلة الإسلام:
دجلة والفرات سنة 1919.
الفتوة سنة 1920.
أزريجان سنة 1921، 1939.
بين النهرين سنة 1920، 1923، 1942 .
نشوار المحاضرة للتنوخي سنة 1924.
القرآن والحديث في مكتبات اسطنبول سنة 1928 .
كتاب (الفهرست) سنة 1928، 1929 .
كتاب (مختلف الحديث لابن قتيبة) سنة 1928، 1929.
كتاب (مشكل القرآن لابن قتيبة) سنة 1929.
إصلاح الغلط في غريب الحديث لابن سلام سنة 1929.
ابن سعد سنة 1929.
حلية الفرسان سنة 1929.
الكفر سنة 1929.
ابن الجوزي وابن الراوندي سنة 1931 .
الحسن البصري سنة 1933 .
الفارسي سنة 1933.
الأنصاري الهروي سنة 1935 .
ترجمة كارل هنريخ بيكر سنة 1937.
السهروردي سنة 1937.
فريد الدين العطار سنة 1939 .
مولانا جلال الدين الرومي سنة 1942.
وفي مجلة أوريانس نشر:
دراسة اجتماعية نفسية بحسب ابن خلدون سنة 1948.
دراسات في فقه اللغة الجزء الثاني عشر سنة 1948.
دراسات في فقه اللغة الجزء الثالث عشر سنة 1949، سنة 1950.
وصف المخطوط الأصلي في اسطنبول للكامل.
المخطوطات العربية في الأناضول واسطنبول 1950.
مواد جديدة لدراسة زجل ابن قزمان سنة 1950.
الصوفية الإسلامية سنة 1952.
موقف الرياضة الإسلامية الصوفية من الله سنة 1952.
توقيعات في المكتبات التركية سنة 1952.
كتاب باتا نجل لأبي الريحان البيروني وهي دراسة كتبها بالعربية وخصّ بها كتاب المنتقى. القاهرة سنة 1955، ثم نشر الكتاب برمته في أوريانوس سنة 1956.
البيروني سنة 1956.
فريد الدين العطار سنة 1959، سنة 1960، سنة 1961.
ومن دراساته الأُخرى :
عمر الخيام (مجلة الآداب الشرقية 1929).
يعقوب بن اسحاق الكندي (المحفوظات الشرقية 1932).
مخطوطات البيروني باللغة التركية (الشرقيات 1933).
الأرقام العربية (مجلة الدراسات الشرقية 1936).
كتاب معاني القرآن لابن منظور الديلمي (إسلاميكا مجلد 18).
ابن فضلان (المجلة الشرقية الألمانية سنة 1942).
الطباعة العربية (المجلة الشرقية الألمانية سنة 1950).
مشارق أنوار القلوب للدباغ (بيروت 1960).
هل للأورثوذكسية يد في الانحطاط (بحث ضمن كتاب ازدهار الثقافة وانحطاطها في تأريخ الإسلام سنة 1957).
كارل بيكر (ضمن كتاب عن الإسلام سنة 1963).
القراقوز (ضمن كتاب تكريم سبياتس سنة 1967).
***
أمّا المقدمة التي كتبها هـ - ريتر عند تحقيقه ونشره كتاب أسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني سنة 1954، وهي التي وضعها في نهاية الكتاب وباللغة الانجليزية ولم يتم الاهتمام بها لأنها في نهاية الكتاب وغير مترجمة، وهي خلاصة مكثفة عن البلاغة العربية وتأريخها وأعلامها وفنونها ؛ وتقع بست وعشرين صفحة، وقد ساعدتني إحدى طالباتي في الدراسات العليا (الدكتوراه) على ترجمتها، والغريب في الأمر أنني قرأتُ كثيراً من كتب البلاغة العربية والدراسات البلاغية وعن تأريخ البلاغة وعن أعلامها وفنونها وآراء كثيرة في ذلك، وان كتاب أسرار البلاغة بتحقيق هـ - ريتر بين أيدينا منذ نصف قرن ولا أجد أحداً يشير إلى رأي هـ - ريتر في البلاغة أو فنونها ؛ كل ما في الأمر أننا نعتمد كتاب أسرار البلاغة طبعة هـ - ريتر للتوثيق لأنه حُقق علمياً ولكن غير هذا لا نعرفُ شيئاً عن هـ - ريتر أو عن رأيه في البلاغة العربية وأعلامها وفنونها. واهم ما في ذلك هو ردّه على مزاعم مَنْ ادّعى بالأثر الأجنبي في البلاغة العربية سواء أكانت فارسية أم يونانية، وفي هذه الخلاصة آراء رائعة حول التركيب الفني والجمالي واللغوي للشعر العربي أو الفنون البلاغية، ويتطرق هـ - ريتر إلى مدرسة أبي تمام الشعرية أي مدرسة البديع ويردّ على ما كتبه طه حسين في بحثه (البيان العربي من الجاحظ إلى عبدالقاهر) الذي نشره كتمهيد لطبعة نقد النثر المنسوب لقدامة بن جعفر التي حققها عبدالحميد العبادي سنة 1939، وهو في الأصل بحث منفصل قدّمه الدكتور طه حسين سنة 1933 لمؤتمر المستشرقين. ويردّ هـ - ريتر كذلك على فكرة الدكتور طه حسين بأن أكثر العناصر البلاغية في شعر أبي تمام جاءت بسبب أصله اليوناني رداً علميا، ويتطرق لكتاب البديع لابن المعتز ويعدهُ من كتب البلاغة العربية الأولى والمؤسِسة التي لم تتأثر إلا بكتب اللغة والشعر العربية السابقة له ولا يوجد أي مؤثّر أجنبي آخر، ويستطرد هـ ريتر حول فكرة البديع وتطورها عند البلاغيين العرب بعد ابن المعتز، ويستعرض كتابي عبدالقاهر الجرجاني أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، ويركّز عمله على الأول وآراء عبدالقاهر فيه البلاغية والفنية والتأويلية. والفرق عنده بين التشبيه والاستعارة والتمثيل.
ويرى أن كتاب أسرار البلاغة ينتهي بالصفحة 363 أي: بفصل المجاز واعتقاد المتكلم (الإفراط في تأويل القرآن) وإن ما بعد ذلك الذي جاء تحت عنوان (كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته) هو ليس من صلب كتاب أسرار البلاغة بل رسالة منفصلة أُلحقت بالكتاب فيما بعد وتبدأ بعبارة (بسم الله الرحمن الرحيم هذا كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته)، ويقول: ربما فعل هذه الإضافة المؤلف (أي عبدالقاهر) أي: إنّه قام بإلحاق هذه الرسالة بالكتاب. والرسالة هذه تنتهي بالصفحة 389، وبعد ذلك يرى هـ - ريتر أن أسلوب عبدالقاهر الجرجاني (واضح ومتنوع ويعلو على جفاء الكتابة المُتعلمة بالاستخدام الاعتيادي للنثر المقفّى، لذلك فإنّ هذا الكتاب أسرار البلاغة إنما هو رائعة أدبية في الأدب العربي ليس لمحتواه فحسب وإنما للتحليل العميق في الإبداع الشعري وكذلك في الأسلوب)([40]).
وليس غريبا أن يهتم بهذا الكتاب لأكثر من ثلاثين سنة، إذ نشره وقدّم له بالمقدمة التي ذكرناها وهي باللغة الانكليزية، ثم نقله إلى الألمانية، فهو يعدّهُ أهم كتاب في البلاغة العربية([41]).
مقدمة (هـ - ريتر) لكتاب أسرار البلاغة:
إنّها لحقيقة مشهورة جداً أنّ العرب طوّروا موهبة مميزة للفن الأدبي، فلم يكتفِ البدويون بإنتاج فنيّ نحتٍ ورسم أصليين بل من جانب آخر، ومنذ القرن السادس الهجري طوّروا فناً أدبياً غنياً أحادي الجانب، هذا الفن يعتمد أساساً على الشعر وبصورة أكثر تحديداً (القصائد الغنائية) ومع ذلك ومنذ الأزمنة القديمة وُجِدَ الشعر جنباً إلى جنب مع النثر الأدبي، وإذا بحثنا عميقاً في الأعمال المقصود بها مجموعة البلاغة العربية القديمة مثل كتاب البيان والتبيين للجاحظ، نجد كثيراً من الأمثلة البلاغية أو النثر البلاغي. تلك الأقوال المدونة للبدويين والبدويات التي عُرفت بـ(الاستعارات) الأخّاذة المحكمة والطرائف وأحياناً بالنثر المقفّى (السجع). تلك الأقوال اعتدّ بها الكتّاب مثل الجاحظ لقيمتها الأدبية، تماماً كالشعر. إلى جانب تلك الأقوال المختصرة التي كانت مُعنونة إلى الخلفاء والحكّام، هناك الخطابات العامة سواء السياسية أو التي كتبها الخلفاء والحكام أو الشخصيات البارزة، الخطابات التي قدّرها عالياً رجال الرسائل العرب، تلك الخطابات كانت دائماً خطابات ارتجالية ليست (مكتوبة)، عندما كانت الإدارة العربية تؤسس حقلاً جديداً من الأدب العربي المتطور الذي كان مقصوداً منذ البداية للتعبير بالكتابة. تلك هي الرسائل الرسمية التي كتبتها (دوائر الحكم)، تلك الرسائل كان متوقعاً أن تأخذ شكلاً أدبياً، ويبدو أن ذلك هو السبب منذ العقود الأولى من القرن الرابع الهجري .
كانت الثقافة الأدبية في الشرق المسلم قد مثّلتها أساساً الحاشية فضلاً عن ذلك ظهر فن كتابة الرسائل الخاصة التي كانت على مستوى أدبي عالٍ. إن الأسلوب النهائي الراقي لفن كتابة الرسائل كان من ثمّ مُتبنى في فن الكتابة التأريخية وأخيراً أيضا يبدو في الأعمال التي كان مقصوداً بها الترفيه فقط. وهذا أنهك غالباً أنواع الرسائل الغنائية العربية، لذا ليس هناك شعر غنائي عربي معروف في الأدب العربي القديم، ولا شعر ملحميّ؛ هناك بعض المحاولات في الشعر الغنائي تعود أصولها إلى التأثير الفارسي، وذلك خلال القرن الثاني الهجري إذ ترجم ابن اللهيجي الأعمال السردية الفارسية مثل كليلة ودمنة والسندبادنيم وقصص أخرى إلى الشعر العربي.
 ومجّد ابن المعتز منجزات الخليفة المعتضد بشكل شعري سُمّي بـ(المزدوجة) بتأثير المثنويّ الفارسي. لكن هذا شكل من الأدب لم يؤسس نفسه في الأدب العربي، إذ كان للعرب القدماء ميل قليل للأدب القصصي. إنّ موضوع الشعر والنثر العربيين متعلق بالحقائق والواقع وليس بالأحداث القصصية، ربما يحدث أن السمة الذاتية للشعر أو السرد ليست حقيقته ولكن إن كان كذلك، فإن الشاعر أو السارد برغم ذلك لا يعني التعلق بالأحداث الحقيقية، إلى جانب ذلك فإن الاهتمام لدى العربي قصير العمر، بمعنى انه لم يكن له صبر على تضييع الوقت ليستمع إلى قصص طويلة (على موضوع واحد)، إنّ مؤلف الأدب العربي لا يخشى شيئا كما يخشى إتعاب (أو إملال) المستمع أو القارئ بالدوران والمماطلة لإطالة موضوع واحدٍ، لهذا السبب فإنّ الأدب العربي في بعض الأحيان يعطي انطباعاً استطراديا .
إنّ الكُتّاب لم يتعاملوا مع موضوع واحد مهما كان طوله، لكنهم يَعْبرون سريعاً من موضوع لآخر، وكل السرديات (المرويات) كانت أقرب للقِصَر، وفي القصائد فإن الاهتمام لا يكمن كثيراً في كل البنية الشعرية كما في جمال الأبيات المفردة. أخيراً فإنّ الشعر العربي هو ذاتي بالأساس، ويبدو الشاعر دائماً حاضراً ولا ينسى نفسه بسهولة ليركّز انتباهه على سرد الأحداث الطويلة حتى لو بدا أنه يعقل ذلك. تبقى هناك دائما علاقة بين الأشياء التي يصف ونفسه وحتى لو كانت القصيدة في مدح (تمجيد) الحاكم فإن الشاعر يبدأها بأبيات عن نفسه، عن مجد الشاعر أو فخره أو أصله العريق.
إنّ العناصر الشكلية في الشعر العربي متطورة بالأصل حقاً. فهناك ستة عشر بحراً بتنويعات مختلفة وبإيقاع واحد مستمر يصير ممكناً لوفرة المترادفات في اللغة، وهناك أيضا انتظام أكيد في بنية القصيدة وهناك أيضا عناصر شكلية أخرى يمكن أن توظف في تركيب الأبيات والنثر مثل التشبيه والاستعارة والطباق (وهو تكرار الكلمة الأولى في نهاية البيت) وهكذا... إنّ التشبيه والاستعارة كثيرة الحدوث ولكن ليس بشكل زائد عن الحد.
في بداية العصر العباسي ظهر شعر جديد بالعناصر الشكلية المتأخرة والأشكال البلاغية وظهر عمداً بوضوح واطراد عظيم، والممثل الرئيسي لهذا النوع أبو تمام المتوفى (230هـ) وهذا الابتكار الجديد بالأشكال البلاغية كان مُقدّراً أكثر فأكثر، ويُدعى هذا الأسلوب الجديد (البديع)، وهذا المصطلح استعمل أيضا ليدلّ على أشكال الكلام أنفسها.
كيف بوسع المرء أن يشرح هذا الأسلوب الجديد الذي لم يسيطر على الشعر العربي فحسب بل على الشعر الفارسي والشعر التركي أيضا ..؟
يؤكد طه حسين في مقدمته لطبعة نقد النثر لقدامة بن جعفر أنّ أكثرية العناصر البلاغية واضحة في شعر أبي تمام بسبب أصله اليوناني، واعتبر ذلك الشعر دليلاً على تأثير اليونانية في العالم العربي.
بالحق اتفق عموماً على أن العالم الإسلامي كان متأثراً بقوة بالثقافة الهيلينية المتأخرة للمدن الشرقية، ذلك التأثر ظاهر في الهندسة المعمارية والفلسفة وفي العادات وتقاليد الزواج وما إلى ذلك. لكن! كيف لنا أن نتخيل تأثيراً يونانياً في الشعر العربي..؟ هل تعلّم أبو تمام شيئاً عن مبادئ البلاغة في مدرسة مسيحية..؟ لا نعلم أنه تعلم في مدرسة كتلك. وإذا كان تأثيرٌ كذلك موجوداً فإنه ليس لدينا شعرٌ يثبت ذلك.
وماذا عن علم البلاغة..؟ ولا سيما الأشكال عند المسلمين العرب..؟ والبحور التي استعمل الشعراء العرب في القرن السادس، التي صنفها علمياً الخليل..؟ إن الأشكال البلاغية التي صنفت أولا مع الاستعارة والتشبيه درسها الأمير العباسي ابن المعتز (296هـ) في كتابه المسمى بـ(البديع) الذي كُتبَ سنة 274هـ، وفي الوقت نفسه قواعد الشعر الذي كتبه ثعلب (291هـ)، وكتابان آخران لقدامة بن جعفر (310هـ) ظهرا هما : نقد الشعر ونقد النثر، إنّه على أي حال ليس من المؤكد فيما اذا كان نقد النثر قد كتبه قدامة بن جعفر نفسه. إن طه حسين يؤكد أن نقد النثر كان بتأثير بلاغة أرسطو الذي ترجمه إسحاق بن حنين (298هـ) وليس من شكّ في أن قدامة قد عرف بعضاً من أعمال أرسطو، بالإضافة إلى كتاب (المنطق) لأرسطو.
ولكن بمقارنة بلاغة أرسطو بكتاب قدامة نجد القليل من القواسم المشتركة بينهما، إن كتاب (بلاغة) أرسطو بعيداً عن شاعريته كان قليل الشبه بما عند العرب. إن أول نوعين قدمهما أرسطو في البلاغة :
Symbouleutikon و Dikanilcon
لا يمكن أن يكونا من اهتمامات العرب لأنه من الصعوبة أن يحدث في لقاءاتهم العامة تأثير في قرارات الجمهور من خلال الخطابات السياسية، كما تتأثر هيأة المحلفين في المحاكم بتأثير البلاغة .
والنوع الثالث epideiklikon (الخطابة) فهو المناسب، وقد مرَّ أرسطو على الأجناس البلاغية مرّ الكرام وبطريقة مختلفة كلياً عما عند العرب. ربما كان من الأسهل الافتراض أن المرتدين النصارى قد تعلموا شيئا من مبادئ البلاغة خصوصا فن الأسلوب. ولكن ليس هناك من دليل أدبي على هذا الافتراض، إذ لا شيء من البلاغة اليونانية يُذكر في كتاب ابن المعتز. لم يكن موضوعه بالتحديد عن مجموعة منهجية لعدد من الأجناس (قد ذكر 16 جنساً) ولكن فوق كل شيء هيمنة الأسلوب المتضمن لأحدث الأنواع المسمى بـ(البديع). والدليل على أن الأسلوب الجديد المسمى بـ(البديع) لم ينشئه الشعراء الجدد مثل بشار بن برد ومسلم بن الوليد وآخرين ولكنه وجد أصلاً في الشعر العربي القديم بالإضافة إلى القرآن الكريم، إنّه باختصار يشرح هذه الأجناس ويفسّرها ومن ثم يوضح بأمثلة مختلفة من مراجع مبكرة، فهذه مناقشة التجنيس (الجناس) يقتبس من كتاب مفقود للنحوي الأصمعي (216هـ) وله كتاب (الأجناس) وهذا الكتاب لم يصل إلينا، لذلك لا نعلم فيما إذا كان قد درس أموراً معجمية خالصة أو أنه كان كتاباً مبكراً في هذا الجنس البلاغي، ويقول في مناقشة (المذهب الكلامي): إن هذا المصطلح كان قد أسس له الجاحظ (255هـ)، لذلك فإن ابن المعتز لم يقتبس عن الإغريق وإنما عن الأعمال العربية فقط، ومن جهة أخرى فإنه من السهل رؤية أكثر الأجناس التي استخدمها موجودة في كل مكتبات البلاغة القديمة، مثل الطباق والاعتراض والالتفاف والرجاء وكذلك كثير من الأجناس الجديدة التي أضافها أتباع ابن المعتز لاحقاً.
إنّ المقارنة بين الأعمال البلاغية القديمة والأعمال البلاغية في العصور القديمة لم تجر على يد أحد حتى الآن .
إنّ أفكار ابن المعتز مارست تأثيرا مؤكداً في الكثير من الأعمال الأدبية في التشبيه والاستعارة وأجناس الكلام. وأُلِّفت فيما بعد كُتبٌ كثيرة لكن ما أقلّ ما وصل منها إلينا وأقلّ منه ما نشر من ذلك.
إنّ هذا النوع من الأدب أخذ منحى خاصاً بعد صفي الدين الحليّ (749هـ) كان قد رأى النبي في منامه وجاءه الإلهام بكتابة مديح عن النبي (ص) يتضمن كل أنواع الجناس التي شرحها بنفسه في التعليق الذي أضافه إلى قصيدته. إنّ هذا الشكل من تقديم الأنواع البلاغية قد استمر مستعملاً حتى القرن الثاني عشر للهجرة وآخر نموذج رائع (على حد علمنا) هو (أنوار الربيع في أنواع البديع) الذي كتبه ابن معصوم (1104هـ).
من جانب آخر، فإنّ أجناس الكلام هي ليست الموضوع الوحيد الذي تتعامل معه الأعمال البلاغية العربية، ففي كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري (395هـ) وكتاب العمدة لابن رشيق (456هـ) يتعامل مع مواضيع مثل تعريفات البلاغة ومقياس اللغة الجمالي ورؤى النبي (ص) وأتباعه في الشعر ومواضيع أخرى .
إنّ النقد الجمالي كان محفّزاً جزئياً بواسطة الجدل القائم على استحقاق (أو أهلية) بعض الشعراء مثل أبي تمام والبحتري، فلكلٍ منهما أنصاره ومواليه، إذ محّصت آراء النقاد المحترمين، وتغايرت مع آراء الكاتب ... وهكذا، وأفضل الأعمال المدونة في هذا النوع هو : الموازنة بين أبي تمام والبحتري، كتبه الآمديّ (371هـ) والوساطة بين المتنبي وخصومه كتبه الجرجاني (392هـ) وقد زوّدتنا هذه الكتب بمعلومات قيمة عن المعايير التي استخدمها النقاد العرب لتصنيف الشعر. وفي هذا الأدب أعطي هامش كبير للتقصي في أيّ من الشعراء تبنى الحافز الشعري للتغيير..؟ وفيما إذا كان هذا التغيير للأحسن أو الأسوأ. وقد توضحتْ هنا خبرة مدهشة في الأعمال الشعرية وذوق متطورٍ عالٍ في نقد الشعر، وبالرغم من هذه الحقيقة فهناك أحكام مسبقة وشخصية وعشوائية، وفي بعض الأحيان غير مدعومة ولا مؤكدة، ولكن حتى الآن نستطيع أن نتعلم الكثير منها رغم ذلك، ومعظم هؤلاء الكتاب اكتفى بعرض مختصر للاستعارة والتشبيه والمجاز وأنواع مختلفة من الكلام وإعطاء أمثلة، كما فعل ابن المعتز تماما، وفي بعض الأحيان يعلل لماذا الاستعارة أبلغ من التعبير الاعتيادي.
وهناك مقترب جديد كليا قدمه الجرجاني بموضوع هذا الكتاب (أسرار البلاغة) (ت 471هـ)، ولا نكاد نعرف شيئاً عن حياة هذا الرجل، إلا انه كان تلميذا لعبدالحسن محمد بن الحسن الفارسي، الذي كان قريباً أيضا للنحوي المشهور أبي علي الفارسي. وربما كان تلميذا لأبي الحسن الجرجاني مؤلف كتاب الوساطة المذكور، ألف سلسلة من الكتب النحوية ومنها (العوامل المئة) مشهور جداً، وفضلاً عن هذه الكتب النحوية ألّف كتابين أصبحا في فلك الشعر والبلاغة وسيبقيان مهمين أساساً للأجيال اللاحقة، أحدهما: دلائل الإعجاز وموضوعه كما يبدو إثبات الأسلوب البلاغي للقرآن وأنه غير قابل للتقليد، وفي الحقيقة أنها لنظرية مناسبة جدا للأساليب النحوية، فقد استقصى فيه أنواع البلاغة الدقيقة في المعنى التي تتأثر بترتيب الكلمات، ومن الملاحظ أن نُحاتنا لم يسجلوا ملاحظات على هذا الكتاب الذي يُعدّ تكملة مهمة لنظرية النظم التي قدمها سيبويه وأتباعه.
والكتاب الثاني (أسرار البلاغة)، قد ألفه على الأرجح بعد (الدلائل) ويحتوي بالأساس على التشبيه والاستعارة والتمثيل، وقد حلل خلف الله محتوياته في مقالته (نظرية عبدالقاهر الجرجاني) في نشرة جامعة الملك فاروق الأول لقسم الآداب الثاني 1944 في ص14-48.
أحدث هذان الكتابان ثورة كبيرة في دراسات البلاغة عند العرب. وفي البداية لُخِّصا وأعاد ترتيبهما فخر الدين الرازي وهو المفسر والشارح العظيم للقرآن (606هـ)، وجاء من بعده الرجل الموسوعي السكاكيّ (624هـ) في جزئه البلاغي من كتابه (مفتاح العلوم)، وقد شكلت أعمال السكاكي الأساس في (التلخيص) لمؤلفه القزويني خطيب دمشق (739هـ) فالمؤلف نفسه قد وسّع هذا التلخيص لاحقاً بعنوان (الإيضاح في المعاني والبديع) وأصبح التلخيص النص التقليدي في البلاغة خلال العالم الإسلامي، وقد علق عليه عدد لا يحصى من المؤلفين وقد دوّن معلقون آخرون على تعليقاتهم كتابة وأكثرها شهرة : المطوّل والمختصر للمؤلف التفتازاني (791هـ) حتى أن كل ما عند المثقفين المسلمين من معرفة بالبلاغة جاء نتيجة لهذا الكتاب. وقد أنشأ الجرجاني نوعين جديدين لعلم البلاغة هما (علم المعاني) وهو الشكل المدرسي (التعليمي) لكتاب دلائل الإعجاز، وعلم البيان المشتق من أسرار البلاغة، وقد أضيف إليهما نوع ثالث وهو أقدم علم من أجناس الكلام (علم البديع) ومنذ (تلخيص) القزويني ضمّت البلاغة الأقسام الثلاثة: علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع .
إذن، فما هي المساهمة الجديدة (أسرار البلاغة)...؟
وماذا يميّز الجرجاني عن سواه في مقتربه (أسرار البلاغة) هذا..؟
إنّ محتويات الكتاب عبارة عن سلسلة من التحقيقات والتحليلات بطريقة منطقية ونفسية ومعايير جمالية طُبِّقت بذكاء ورهافة حسّ غير مسبوقتين وسأحاول توضيح ذلك بذكر أمثلة من الكتاب. يناقش الجرجاني (التجنيس) وكما هو معلوم جيداً، التجنيس هو تكرار كلمة أو جزء كلمة مع معنى مختلف عن المعنى الذي ذكر في الموضع الأول .
الجرجاني ليس راضياً على كل حال عن تحديد مختلف أنواع التجنيس ببساطة كما يفعل باقي البلاغيين لكنه يعالج المشكلة بطريقة مختلفة تماماً. أولاً ينتقد الرأي القائم على أن جمال الأشعار يعتمد على جمال الكلمات (أو الألفاظ) وإذا ما حلل احد الأشعار المشهورة بتدفق الكلمات عن طريق جرس الألفاظ، ولكن عن طريق المفاهيم المنبثقة من هذه الكلمات. ومن تدفقها الرقيق في عقول المستمعين .
وفي حالة التجنيس ربما يعتقد المرء أن الجمال يعتمد على التكرار المتناغم للكلمة ولكن هذا غير صحيح. يقارن الجرجاني بعض الأبيات ذات التجنيس الجيد والأخرى التي فيها تجنيس رديء ليبين أن المرء لا يستطيع أن يشرح قيمتها الجمالية المختلفة بمجرد ظاهر الكلمات .
عمل أبو تمام بيتاً استخدم فيه التورية بلفظ الذهب وتقليباته الجذرية يقول:
ذهبتْ بمذهبه السماحة فالتَــوَتْ         فيـه الظنون أمــذهبٌ أم مـذهبُ
مذهب هو التظاهر أو الادعاء (إيحاء فارغ).
يقول أن سماحته حيّرت العقول هل هي عادة أو ادعاء. «وقوله: أمذهب أم مذهب» (يقول أطريقة هو وخُلف أم مذهب من قول العامة «بفلان مذهب» إذا كان يلج في الشيء ويُغرى به، وأكثر ما يستعمل ذلك في الطهارة، يقال «بفلان مذهب» إذا كان تظهر (ثم يتوهم) أن طهارته لم تكتمل فيعيدها وذلك يعرض للقراء والمتنسكين كثيرا، ويجب أن تكون هذه الكلمة حدثت في الإسلام وذلك أنهم رووا حديثاً مرفوعاً فيه ذكر أولاد سبعة ولدهم الشيطان أحدهم يسمى المذهب. (ينظر هامش رقم 6 من أسرار البلاغة).
وفي هذا الشعر فإنّ معنى كلمة (مذهب) أقرب لمعنى الفكرة الثابتة، ومثل هذا التلاعب اللفظي (التورية) لا يؤثر في المستمع إطلاقاً لأنه لا يوحي بفكرة جديدة ومؤثرة .
لكن الأمور تتغير في بيت أبي تمام الذي يقول:
ناظـراه بما جنـت ناظراه         أو دعاني أَمُتْ بما أودعاني
في البيت الأول، لاشيء يُكتسب أو يُحرز من (المذهب) و(المذهب)، إنما هو تكرار فارغ فقط للصوت. هذا التلاعب في الألفاظ لا يضيف شيئا إلى المعنى، أما في الشعر الثاني فعلى النقيض، يشعر المرء في البداية بالخداع لأنه يبدو فقط تكرارا للكلمات أنفسها من دون أي إضافة للمعنى لكن الحقيقة هذه الكلمة المكررة نفسها تعطي معنىً جديداً فهي تخفي قصدها (هدفها) كما لو أنها لا تملك شيئاً جديداً لتقدمه لكن في الحقيقة فهي تكافئ المستمع بوفرة (غزارة) مثل تلاعب لفظي كهذا وقيمته، تلاعب لفظي (تورية) لا يعتمد على الكلمات فقط بل على المعنى المضاف الذي يُقدّم كقناعٍ وفجأة يكشف عن جماله كاملاً.
في البداية تظن بأنه مجرد تكرار لمتشابهات، وهذا التكرار من اجل التوكيد فقط ولكن ستلاحظ لاحقا بأنك أُعطيتَ فكرة جديدة بعد أن استسلمت على أمل الحصول تلك الفكرة، وستأخذ الفائدة (الربح) بعد أن ظننت بأنك قد خُدِعتَ.
هنا نجد نقداً جمالياً مبرراً بحجة نفسية : التورية تترك انطباعا عظيما بعد أن كانت محجوبة فإذا بالفائدة تأتي من ناحية غير متوقعة .
وكلما كان الارتباط بين الفكرة والتلاعب بالألفاظ قويا، كان أحسن إذ يجب انطباع لابد منه (بذلك الارتباط). فعندما منع عاملُ الماء البدوي من الوصول إلى الماء، وضرب رفاقه ومزّق ثيابه، احتجّ البدوي على لعامل بقوله :
حلأت ركابي وشققتَ ثيابي وضربتَ صحابي. فأنكر العامل عليه ذلك قائلاً: أو تسجع أيضا! (يقصد حتى الخادم يتكلم بالسجع) فسأله البدوي : إذاً كيف تتوقع مني أن أتكلم؟ (ينظر أسرار البلاغة ص13 والمقدمة الانجليزية ص8 و9).
يضيف الجاحظ الذي روى هذه القصة : (إذا ما أبدلنا الكلمات المقفّاة بأُخر فسنجد بأنه ليس هنالك كلمات مناسبة ككلمات البدويّ).، والجاحظ يوضح هذا بتفاصيله. يقول الجرجاني : (الأفكار لا الكلمات هي السادة التي تتطلب الطاعة، وأي شخص يعطي كلمات تتسلط على المعاني فهو يقلق نظام الأشياء ويبعدها عن حقيقتها، لأنه يحاول أن يسند فكرة ضعيفة عن طريق التلاعب بالألفاظ أو القافية وبذلك فهو مثل شخص يغطي العروس بزينة كثيرة حتى تصبح كريهة المنظر ومثيرة للاشمئزاز وأحسن شيء هو ترك الأفكار لأدواتها الخاصة وتركها لتختار كلماتها الخاصة والكلمات بدورها تختار لأنفسها الرداء الذي يناسبها حقا).
وهنا مرة أخرى فإن الخلفية النفسية أُعطيت من أجل اخذ رأي جمالي : فالتلاعب بالألفاظ ينتج أكثر الانطباعات قوة وأكثرها طبيعية إذا ما كانت كامنة في اللا وعي وإذا لم تفتقر إلى طلبها بجهد مقصود من الوعي .
والجزء الأعظم من أعمال الجرجاني، على كل حال ليس مكرسا للتلاعب بالألفاظ ولكن للتشبيه والاستعارة والتمثيل فهو قد فرض على أسلافه ضريبة التزامهم بالتفوّه بالبديهيات وإعطاء الأمثلة بدلا من التحري (البحث) عن الاستعارة وأصنافها بشكلٍ كافٍ (مع أخذ ابن المعتز بالاعتبار).
هؤلاء الأسلاف ـ والكلام للجرجاني ـ يفضلون عدم إطلاق عقولهم بعيداً والله يعلم بأن ذلك أسهل ويبعد عن المتاعب .
بدأ الجرجاني بتعريف الاستعارة: وهي عبارة عن كلمة في اللغة لها معنى أساسي وتؤخذ مؤقتا كما هي لتشير إلى شيء آخر غير المعنى الأساسي ولذلك في اللغة العربية يُطلق على الاستعارة (الاقتراض) وهي الشيء الذي يعبر عن شيء جديد فتكون فكرة مفيدة وأخرى لا تعبر عن شيء جديد فتكون غير مفيدة، فالاستعارة غير المفيدة تظهر عندما يستعمل الشاعر المترادفات في اللغة العربية، على سبيل المثال عندما يتكلم الشاعر عن جزء معين من جسم الإنسان فهو يستخدم لفظا مناسبا حتى لجسم الحيوان كقول الحجّاج (من الرجز) في وصف أنف امرأة جميلة فبدلاً عن أن يقول (أنف) يقول (مرسن) وهذا اللفظ على الأرجح يدلّ على أنف الحيوان الذي يربط به الحبل (الرسن) فقط:
(وفاحماً ومرسناً مسرّجا  ص29 أسرار البلاغة).
وشاعر آخر يستخدم لشفاه الخيل لفظة (جحفل) وهي كلمة تشير إلى شفاه الإنسان (شفة) :
تسمع للماء كصوت المسحـل        بين  وريديهـا  وبين  الجحـفـل
(ص30 أسرار البلاغة)
هذه الاستعارات ليس لديها قوة في المعنى لأنها مصطلحات تعبر عن شيء واحد ولا تضيف معنى جديدا. أما الاستعارة المفيدة على كل حال فهي تعطي معنى جديدا أو قيمة في التعبير، فأنت تعبر باستخدام الاستعارة عن شيء لا تستطيع التعبير عنه بغيرها بمعنى انك تخلق انطباعا واضحا عن شجاعة الرجل بإطلاق صورة الأسد وكل ما تحتويه من القوة والشجاعة في مخيلة السامع وقد يحصل أن يجتمع النوعان من الاستعارة المفيدة وغير المفيدة فعندما يطلق الحجاج مصطلح (مرسن) على أنف السيدة فهذه الكلمة لا تعبر عن شيء بالتحديد، ولكنها من كلام الفرزدق تعبر عن شيء بالتحديد :
فلو كنتَ ضبياً عرفتَ قرابتي         ولكـن زنجيـاً غليظَ المشافر
إنه لمن المشوّق رؤية كيف أن الجرجاني قد قسّم الاستعارة الحقيقية من وجهة نظر جديدة كلياً. والنوع الأول من هذا الصنف من الاستعارة يظهر عندما ينتقل مصطلح ما من معناه الأصلي إلى شيء آخر محدد موجود حقا مثال قولك: رأيت أسداً، ولكنك تقصد رجلاً بعينه يمكنك الإشارة إليه. أما النوع الآخر من الاستعارة فتأخذ المصطلح بعيدا عن موضوعه المناسب واستخدامه في مكان ليس فيه شيءٌ محدد يمكنك الإشارة إليه بقولك: هذا هو المقصود بهذا المصطلح. مثال ذلك قول لبيد:
وغـداة ريـحٍ قـد كشفتُ وقِرّةٍ           إذا أصبحت بيدِ الشمال زمامُها
(ومعناه: والعديد من الصباحات العاصفة قد انشقت بفضلي بمعنى أنني حميتُ الناس منها عندما كان زمامها تحت يد رياح الشمال).
وهنا فإن الشاعر قد جعل لرياح الشمال يداً على الرغم من أنه ليس هنالك دليل بأن المشار إليه موجود أو معلوم كما الحال في كلمة (أسد) التي تشير إلى الرجل.
لا شيء أساسي تمكن الإشارة إليه لا لزمام الغداة ولا ليد رياح الشمال، وفي الغالب ربما تقول : إنّ الشاعر قد وصف رياح الشمال بوصف السيطرة المطلقة على الغداة بمثل القوة المطلقة للرجل على شيء يستطيع تقليبه كيف يشاء. وهنالك صعوبة مشابهة إذا ما سألنا: ما الذي قُورن..؟ ما الشبه أو الرابط بين الأيدي والأزمّة..؟ والجواب لاشيء إطلاقاً لأن رياح الشمال قد شُبّهت بمالك اليد (الإنسان) وهي مصوّرة كأنها مالك الشيء، لكن في الحقيقة إن الشاعر لا يقصد أن يعزو إليها امتلاك ذلك الشيء (اليد) ولكن يقصد موقف يعتمد على امتلاك الشيء المعني. والشيء نفسه يصحّ على بيت زهير:
وعرّي أفراس الصبا ورواحله (ص45: أسرار البلاغة)
وهنا أيضا لايوجد معنى واقعي للشبه بين الخيول وركوب الجمال كما في الأسد والرجل. الشاعر يقصد أن يقول فقط: إنّ زمن الشباب انتهى ولن يستمتع بذلك بعد الآن، تماما مثل أدوات نشاط ما وقد وضعت جانبا بعد أن انتهت الحاجة إليها، مثلا سروج الحيوانات التي تُنحّى جانباً بعد نهاية الرحلة. يطلق الجرجاني على هذا النوع اسم (التمثيل) وهو ما يقابل مصطلح (analogy). إن الفرق المنطقي بين التشبيه والتمثيل شرحه الجرجاني لاحقا بتفصيل عظيم .
وقبل أن يفعل ذلك أشار إلى أن هذا النوع من التأويل يجب أن يطبق على القرآن أيضا. عندما يقول الله سبحانه لنوح: (واصنع الفلك بأعيننا)، وقد تحيّر الشُرّاح في هذا فبحثوا عن أساس لكلمة (أعيننا) ولم يجدوا شيئا (لم يجدوا شيئا يمكن الإشارة إليه ص47 أسرار البلاغة) فارتبكوا في الشكوك الدينية ولم يقدروا على تفسير ذلك، لذلك فصلوا بين ما هو معروف وما يعنيه التمثيل. ونرى هنا كيف أن البلاغة مفيدة للتخلص من الصعوبات الدوغماتية .
قبل أن يختبر الجرجاني العلاقة بين التشبيه والتمثيل بقرب أكثر، تحرى مختلف أنواع الاستعارة بتحليل منطقي بارع. في البداية تعامل الجرجاني مع أمثلة الاستعارة تلك القريبة جدا للتعبير العادي. فإذا قلنا : الفرس يطير، عندما تركض مسرعة، فإن المفهوم المنقول (يطير) يتبع نوع (الحركة السريعة)، ويمكن لذلك تطبيقه على الهدف الذي هو هنا الموصوف .إنّ الطيران والركض كلاهما حركتان سريعتان يختلفان في النوع والكيفية. مثل هذه الاستعارات قريبة جدا من العادية أي من التعبير اللا استعاري .
من جانب آخر، يقول الشاعر عن بطل قد طعن فارسين بطعنة رمحٍ واحدة:
أينظم فارسين بطعنةٍ؟
الفعل (نَظَم) يُستعمل لإخضاع الأهداف في خيطٍ أو سلك. الآن ينظم البطل رجلين في رمحه. هل هذه استعارة أو لا..؟ ربما نفترض أن تلك استعارة لأن (نظم) عموماً تستعمل لنظم أشياء صغيرة مثل اللؤلؤ، لكن ما دام نوع العملية المقصودة هو واحد تماما فربما ينكر آخر أنها استعارة. ومما هو أكثر أهمية من هذا النوع من الاستعارة اللا مشكوك فيه رغم ذلك، ذلك النوع الذي يكون فيه التشبيه بين الأشياء المقارنة ليس كما في المثال السابق (حسية) بل عقلية. مجدداً دُرس هذا النوع بتفصيل ونتيجة هذه الدراسة في مناقشة الفرق بين التشبيه والتمثيل، ولدى المرء انطباع بأن الجرجاني يحاول الشروع في دراسة ذلك وهو بالنسبة إليه المشكلة الأكثر أهمية من أي زاوية محتملة. إن هذا المقترب ليس مُرتّباً بانتظام، مع ذلك إنه أكثر خيالية ليقتفي أفكارا من عقله كما حاول ليجد طريقه خلال متاهة هذا الأمر الصعب .
إنّ نوع الاستعارة التي هي (تجريد التشبيه)، بمعنى تجريد التشبيه بين الموضوعات المعطاة المتضمنة مفاهيم عقلية (صوراً عقلية) ينقسم على ثلاث مجموعات:
التشبيه المأخوذ من أشياء حسية مدركة ومطبقة لشيء عقلي.
التشبيه المأخوذ من أشياء مدركة حسيا لشيء مدرك حسيا لكن وجه الشبه يُدرك عقلياً.
التشبيه المأخوذ من أشياء عقلية لأشياء عقلية .
مثال النوع الأول يحدث عندما تكون الحجة أو الدليل مخصصة (معينة) مثل: النور والجهل مثل الظلام هذه الحالة واضحة .
النوع الثاني: التشبيه العقلي بين مدركات حسية مثل قول الرسول (ص): «إيّاكم وخضراءَ الدِمن».
من الواضح أن الشبه هنا قائم بين المرأة الجميلة السيئة والنبات الأخضر. إنّ القصد من المقارنة ليس اللون أو الطعم أو الرائحة أو الصفات المحسوسة الأخرى لكنه شيء عقلي، شيء خارجي (ظاهري) جميل للعين، ربما يخفي باطنا شريرا. وهذه مقولة موفّقة، فربما كان للربيع جذور سيئة أو (هو عسل إذا وافقته وحنظل إذا اعترضتَ عليه).
هنا التشبيه لا يمكن إدراكه بالحواس ولكن عقلياً فقط. إنه تمثيل: في كل حالة لدى المرء البديل من الخبرة السارة أو غير السارة (ينظر أسرار البلاغة ص62 و63).
في النوع الثالث: وجه الشبه قائم على أشياء عقلية (ذهنية)، فهنا الجرجاني يقسم الاستعارات التي يتحدث فيها عن الموجود بالفاني والعكس بالعكس. ومثال ذلك: رجل جاهل قيل عنه بأنه ميت أو قيل بأنه ليس لديه عقل إطلاقاً في حين يكون لديه القليل، أو إذا قيل : (أقلّ من لاشيء) (ينظر أسرار البلاغة ص67) ولن أواصل الحديث عن التحليل المنطقي المعقّد لهذه الأنواع.
والآن يعالج الجرجاني الاختلاف بين التشبيه والتمثيل من زاوية أخرى ومن وجهة نظر أخرى يقول : إذا ما قورن شيئان أحدهما بالآخر فسيكون ذلك بطريقتين، فالتشابه قد يكون واضحاً ولن يحتاج إلى تحليل معمّق (تأوّل)، ويكون هذا إذا ما قورن شيءٌ مدوّر بـ(حلقة) أو بكرة أو الوردة بالخد أو رجل شجاع بالأسد (ينظر أسرار البلاغة ص80 -81).
ومن جانب آخر فإن (التأوّل) قد يكون جيداً لإيجاد التشابه حتى في المقارنة بين الحجة والشمس، ومثل هذا النوع من التحليل مطلوب. (حقيقة ظهور الشمس وغيرها من الأجسام أن لا يكون دونها حجاب ونحوه مما يحول بين العين ورؤيتها ولذلك يظهر الشيء لك ولا يظهر لك إذا كنت من وراء حجاب أو لم يكن بينك وبينه ذلك الحجاب، ثم تقول أن الشبهة نظير الحجاب فيما يُدرك بالعقول لأنها تمنع العقول رؤية ما هي شبيهة فيه كما يمنع الحجاب العين أن ترى ما هو من ورائه) ينظر أسرار البلاغة ص:82.
الحجة بتجلي الحق وتجعل الحقائق لا مشكوك فيها كما لا ينكر وجود الشمس.
وهذا مثال سهل.
والآتي أشدّ تعقيداً: أوفد المهلب كعب الأشعري إلى الحجاج فقال : (هم كالحلقة المفرغة لا يُعرف أين طرفاها) ومن إيجاد وجه الشبه هنا فإننا نحتاج إلى تحليل مُتقن والكثير من التأمل (شرح المثال ليس من الجرجاني) إنّ التمثيل يعود إلى هذا النوع من التشبيه، ولا يمكن إظهار وجه الشبه إلا بالتحليل، ففي التشبيه لا يوجد شبه مباشر بين شيئين أو مفهومين وفي بعض الأحيان وجه الشبه بين مجموعتين من الأشياء لها علاقة داخلية بعضها ببعض وليس مجرد رابط بين عناصرها المختلفة، وهي علامة لا يمكن التعبير عنها بصيغة الجملة. يقول ابن المعتز:
وأرى الثريا في السماء كأنها        قدمٌ تبدّتْ من ثياب حداد
(وأرى الثريا في السماء كما لو أنها قدم تظهر خلف رداء الحداد الأسود) فهذا ليس بتمثيل، ولكن في الآية القرآنية: )مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ( فوجه الشبه هنا مأخوذ من الموقف ككل، إذ يجد الحمار نفسه يحمل أسفاراً لا يفهم منها شيئاً، بضعة أشياء بعضها مرتبط ببعضها الآخر. وهناك صفة معينة في الحمار يجب أن تُصوّر وهي صفة (الحمل) ويجب أن يكون المحمول شيئاً معروفاً يسمى بـ(الأسفار) والحمار يجب أن لا يعرف شيئا عن محتواها. وإذا ما فُقِد شيءٌ واحد من بين هذه العناصر المرتبطة والقريبة بعضها من بعض يفقد التمثيل معناه.
ويقسم التمثيل على الجملة المجازية (المثل) وهو حقيقة جُرّبتْ على العموم وعُبّر عنها بصيغة مجازية وهي الموجودة غالباً في الآية (أو الشعر) ليعززه في هذه اللحظة.
يعود الجرجاني إلى طريقته النفسية في المعالجة. ووفقاً له، فالجملة المجازية (المثل) لها آثار جمالية ونفسية متعددة، فهو لم يقلق نفسه في مدح هذا التأثير في الفروع المختلفة من الأدب: مديح (إطراء) ومرثاة شعرية والتنازع والاعتذار والموعظة ..إلخ وهو محقٌ في ذلك تماماً وأعطى أمثلة عنها (ص101).
وهو محقٌ تماماً في التأكيد على أهمية هذا النوع من التعبير. وعندما نتفحص ملاحم النظامي من اجل تحديد وظيفة هذه الأشكال الشعرية في هذا العمل الشعري، فإن علينا أن نجمع عدداً كبيراً من الأمثلة لهذا التأثير المغري للجملة المجازية. وسأختار اثنين من أمثلة الجرجاني: المتنبي يكره الشعراء التافهين الذين انتقدوا شعره وحاولوا تشويه سمعته في عيون من يرعاه، يريد أن يقول: أن الشخص الجاهل يشكل فكرة خاطئة عن الأفكار التي يعبر عنها الشاعر الجيد بأن يظهر له الجيد رديئا (خطأ) ويعبر المتنبي عن هذه الفكرة بالمثل وهو جملة مجازية تصورية (ص108، السطر 94):
ومن يك ذا فمٍ مُرٍّ مريض        يجـد مُرَّاً بـه الماءُ الــزلالا
فالتأثير الجمالي والنفسي في مثله هذا هو أعظم من التعبير السهل الاعتيادي عن الفكرة. ولاحظ الفرق هنا : يقول الجرجاني : إذا ما قلت : (الدنيا لا تدوم) أو قولك: (ظلٌ زائل) أو (وديعة تُرجع) [ص:107].
ويسأل الجرجانيّ: لماذا يؤدي المثل وهو جملة مجازية هذا التأثير النفسي؟ ويجيب: كذلك هي طبيعة العقل البشري ذلك أنه يقبل الأشياء التي يجب أن يتعلمها بثقة عظيمة إذا أمكن تعقب بعض الارتباط بين تلك الأشياء وبين ما هو مألوف. 
تلك المعرفة على كل حال التي نُقلت للعقل بالحواس موثوقة أكثر ومحددة أكثر من أي معرفة مستحصلة بالتأمل والتفكير هناك قول شائع (أن تسمع شيئاً ليس كأن تراه) يبقى هناك سبب، الشعور المألوف ينتج عن ارتباط سابق مع شخص أو شيء.
يذكرنا الجرجاني بالبيت الشعري الجميل لأبي تمام إذ يقول:
ما الحبُّ إلا للحبيب الأوّل
المعرفة أولا دخلت العقل البشري من الحواس والطباع وفيما بعد بالتفكير والتأمل فقط. النوع الأول من المعرفة لهذا السبب ينشأ بالعقل من خلال اقرب علامة وأكثر الحجج المبكرة من النوع الثاني ص15.
إذا قدت الروح بمعاني الجملة الصورية من الأخرى التي تدرك بالعقل والتفكير لتلك التي تدرك بالحواس والطباع، إذن أنت مثل رجل يستخدم صديقا عزيزا قديما ليقدم ضيفا غريبا لشخص ما.
في الشعر هناك نكوص إلى مستوى الوعي العائد إلى مرحلة مبكرة من التطور هذه فكرة مثيرة للاهتمام جدا. ربما نفصل الأمر ونقول : إنّ الإدراك الحسي لا يأتي أولاً قبل الحالة الحسية المجردة للإدراك هناك الحالة الأسطورية. وغالباً في الشعر يستطيع المرء أن يرى النكوص إلى المرحلة الأسطورية في الوعي. بلا شك هذه الفكرة لم تحدث للجرجاني.
يتحرى الجرجاني بأمثلة متنوعة ما وظيفة هذا التأثير المقنع للتمثيل في شكل الجمل الصورية في الشكل الذي تحمله الجمل الصورية، التماثلات بطبيعتها تخدم الشاعر، مثلا كدليل على مفارقاته التوليدية يقصد المتنبي أن يقول لسيف الدولة:
أنت رجل مميز رغم أنك من البشر .
وهذا ليس مدهشاً ولا متناقضاً، فإن المسك أيضا متميزٌ على الدم رغم أنه بعض دم الغزال:
وإن تفق الأنام وأنت منهم       فإن المسك بعض دم الغزال
ص16
لكن حتى لو لم يكن هنا تأكيد متناقض رئيسي يحتاج إلى دليل بالتمثيل، فإن تأثير التمثيل قوي .
إن الشاعر يقصد أن يقول أن كل الساعات التي قضاها مع ليلى كانت لا مجدية تماما:
فأصبحتُ من ليلى الغداة كقابضٍ      على الماء خانتـه فـروجُ الأصابـعِ
هنا التمثيل يصوّر خيبة الأمل الكاملة عند الشاعر وأن الانطباع الصوري نفسه يمارس بصورة أساسية قوة مذهلة ومقنعة. الفكرة تؤثر في النفس أكثر بجدية وأكثر عمقا إذا كانت كما لو كانت مُدركة بصريا، في عالم محكوم بالعين .
يصف الشاعر طول الليلة التي قضاها في مكان يُدعى (صول):
في ليل صول تناهى العرض والطول      كأنما ليلـــه بالليـــل  مـــوصـــول
هنا الليل موصوف باللانهائية وبالرغم من ذلك لا نشعر بالتأثير نفسه كما في بيت شعر ابن الطثرية:
ويـوم كظـل الرمح قــصر طوله       دم الــزق عنا واصطفاف المزاهر
التصوير والتعبير الصوري هو أعلى من التعبير المجرد في الشعر حتى لو تضمن درجة عالية من القوة. (ليلة خالدة تدوم أكثر من ظل الرمح الطويل) فمقارنة اليوم (النهار) الطويل بظل الرمح يمكن أن يطلق عليه الغريب أو غير المعتاد.
الغرابة وفقاً للجرجاني، هي سبب أبعد للتأثير الجمالي للتشبيه أو التمثيل. إن تعقب التشابه لشيءٍ في مختلف الأصناف له جذب غير اعتيادي وقيمة جمالية عليا. وفجأة يكون الترابط بين شيئين متباينين. ومن اجل ذلك فطبيعة البشر حين تكون الروح ميالة إلى اهتمام معين بشيء يبدي ارتباطا غير متوقع. والظهور المفاجئ للأشياء غير المتوقعة وارتباط الأشياء المنفصلة تلقائيا يمارس سحراً خاصاً. وكسبب للتأثير الجمالي للمقارنة غير العادية، يُصرّح الجرجاني لذلك بأنّ علينا أولاً أن نبحث للحظة حتى نفهم العلاقة بين الأشياء المقارنة في التشبيه. والمتعة في شيءٍ نبحث عنه لمدة هي أعظم من أن نجده بسرعة (ص128). فالجرجاني على كل حال قد نصّ على أنّ الشعر يجب ألاّ يكون متعسفاً لدرجة أن الشخص يجب أن يقلق ليفهمه (127-130).
والتجربة على أساس ترابط المتباينات شيء مبهج، لا يعني بأن الشخص قادر على اختلاق ترابط بين أصناف غير منسجمة بصورة عشوائية. وعلى كل حال فهنالك تشبيهات كامنة من الصعب اكتشافها لكن على الشاعر الموهوب تتبعها، وتتبع هذه التشابهات المخفية وهذا الغوص بحثا عن اللآلئ المخفية هي إحدى سبل الشاعر للشهرة (ص138).
وقد حقق الجرجاني إلى ابعد من ذلك في السبب الذي يجعل كثيراً من الصور مخفية عن العين الاعتيادية ولا يستوقف أي احد. وطبقا لرأيه فهذا يعود إلى سببين:
الانطباع العام بأن الشيء يظهر في العقل قبل التفاصيل، وفي عملية الرؤية كذلك نحن لا نصل حالاً إلى انطباعات مفصلة ولكن نرى الشكل بداية في المحطات العامة. لكن الشاعر قد أُعطي القوة لرؤية التفاصيل الغائبة عن الملاحظ الاعتيادي (ص147).
يؤثر الشيء في الذاكرة إذا ظهر غالباً قبل عين الشخص ولكن يستذكر بصعوبة إذا ندرت رؤيته. فالأشياء التي تُرى كل يوم وتعلق في ذاكرة الشخص ليست ذات قيمة كبرى لدى الاعتبارات الشعرية كتلك التي تظهر نادراً. فلدى الشاعر في اعتباره رؤية تختلف عنها في الرجل الاعتيادي، وهذا امتيازه بأنه ارتفع إلى فضاء ابعد من الحياة اليومية وبأنه يرى ويجعلنا نرى الأشياء التي تغيب عن العين اليومية ووصف التفاصيل التي تغيب عن العين الاعتيادية تسمى بـ(التفصيل) والمقارنة مع الأشياء الغريبة (غريب).
التفصيل والغرابة هما عنصران وترتكز عليهما القيمة الإجمالية لكثيرٍ من التعبيرات المجازية. وكلاهما يوجد مثلا في عدد وآخر من قصائد ابن المعتز. ومقارنة نجوم الثريا في مؤخرة السماء الداكنة في الليل مع قدم تظهر خلفها ثوب حداد لامرأة يسمى (الغريب).
ويظهر التفصيل عندما يقوم الشاعر نفسه بمقارنة خباء منصوبة وتعصف الريح بداخلها وبذلك تكون غير ثابتة مقارنة بطائر جناحاه مقصوصان ولا يستطيع التحرك والطيران (ص201):
ورفعنــا خباءنا تضرب الريـــ             ـح حشاه كالجاذف المقصوص
وهنا قورنت الخيمة بتصفيق الطائر بجناحيه، ولكن التأثير التام في التشبه يعتمد على جناحي الطائر اللذين قُصّا. فالشعر يحتوي على تعقيد كامل للتفاصيل .
وكذلك: المتنبي يقارن الرماح اللامعة في غيمة من الغبار (التراب) بالنجوم التي في سماء الليل (ص159):
يزور الأعادي في سماء عجاجة         أسنتــه في جــانبيــه الكـواكب
وهنا مجدداً يمسك الشاعر عدة أشياء في آن واحد .
وعلى كل حال فإن بشار بن برد يقول:
كأن مثار النقعِ فوق رؤوسنا        وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وهذا الشعر أعلى شأناً من شعر المتنبي لأن التفصيل قد تطوّر أبعد فيه. والشاعر قد أخذ بعين اعتباره شيئا لم يأخذه المتنبي فهو يجعل النجوم تُحطّم إحداها الأخرى وبذلك فقط فهو يصل إلى الجمال الكامل للتشبيه.
واستمر الجرجاني في دراسة أهمها لفهم آخر للشعر وخصوصا الفارسي منه، بإعطاء أمثلة كثيرة فهو يتعامل مع المقارنة المعكوسة (ص187).
فهو يقول بأنه من السهل مقارنة النجوم مع العين وكذلك العيون مع النجوم، وكذلك مقارنة التويجات البيض للبابونج مع الأسنان، والسن الأبيض مع تويجات البابونج وتشبيه العين بالنرجس والنرجس بالعين .
والعكس على كل حال يصبح مستحيلا إذا ما كانت الصفة العامة غير موجودة في كلا الحالتين بالقوة نفسها .
وإذا ما أراد الشاعر إظهار الدرجة الأقل من الصفة بالمبالغة تماما كما الدرجة الأعلى قوة (ص202).
أما بياض الثلج كتقديم للمثال الأوربي تمنت بنت صغيرة بشرتها بيضاء كالثلج وشفاهها حمر كالدم ولا يمكن لأي احد أن يعكس التشبيه ويقول :
دم احمر كالشفاه أو ثلج ابيض كبياض بشرة الفتاة، ذلك أن حمرة الدم وبياض الثلج هما الأصل، ولكن على النقيض فإن ألوان الشفاه والبشرة إنما هما الفرع (الثانوي) ص(202).
حتى الشعراء استخدموا هذا النوع من المقارنات، يقول محمد بن وهيب في مديحه:
وبدا الصباح كـأنّ غـرّته      وجه الخليفة حين يُمتدح
هو يدّعي بأن إضاءة وجه الخليفة إنما هو الأصل وهو حقيقة تعرف بالأصل وغرة الصباح على أنها ثانوية (فرع) وهو شيءٌ ليس مشروحاً أو معروفاً.
إنّ سِحر مقارنة كهذه كما يقول الجرجاني يعود إلى حقيقة أنّ المبالغة مقترحة علينا من غير إدراكنا بها ومعبّر عنها بطريقة لا نلاحظ معها بأنه مجرد توكيد قصصي (خيالي) فلمعان الوجه مُمثل كأنه طبيعي ومعروف حتى إن الأشياء اللامعة الأخرى تُقارن به لتعظيم تأثيرها وبذلك فإن المقارنة المعكوسة إنما هي أقوى من المقارنة الطبيعية .
والشعراء غالبا ما يصفوها في صيغٍ غريبة مثل: (الغزالة سرقت عينيها حبيبتي وجمال الوردة هو شيءٌ من جمال وجنتيها..) إلخ .
تحتوي إحدى سونيتات شكسبير على هذا النوع نفسه من التشبيه :
«ذلك البنفسج المفقود الذي وبخته
ذلك اللص اللطيف،
عندما سرق لطفك، الذي عبيره
مأخوذ من حبي نفسه..».
وإنّ عملية عكس التشبيه إلى حقيقة زائفة ورائعة يمكن حملها إلى ابعد بإعطاء هذه الحقيقة الزائفة سبباً رائعاً. الجوزاء ونجومه الثلاثة تبدو مثل الحزام وهو ممثل على انه رجل يثبت نفسه بطوق من اجل مهمة وفضلاً عن ذلك هناك سبب رائع يُعطى في قصيدة مديح (ص256)، يقول الشاعر:
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته       لما رأيت عليهـا عقـد منتطـق
أو تأكيد ابن الرومي في نوع من الـ(tenzon) بأن النرجس يعلو مرتبة عن الورود، وفي بيت من هذه القصيدة يقول:
خجلت خدود الورد من تفضيله      خجـلا تـوردهـا عليــه شـــاهد
(ص282)
فالشاعر يقارن احمرار الورد باحمرار الخجل، ثم يتظاهر بأنه قد نسي التشبيه تماما ويجعلنا نؤمن بأن الوردة قد احمرت خجلا ثم يبحث عن سبب لهذا الخجل ويقول بأن الوردة قد علت مكانتها النرجس وأنها لاتستحق مكانة كهذه .
هذا النوع من التعبير وهو (التعليل) الرائع سمة من سمات الشعر العربي والفارسي والتركي الحديث. وربما يطلق عليه اسم القاعدة السحرية التي من خلالها نُظِمَ عدد لا يحصى من الأشعار وأصبحت متداخلة حتى في اللغة اليومية.
فالتعليل الرائع كان معروفا في أوربا .
يقول شكسبير في خطاب انطوني:
(بواسطة هذا، فالمحبوب بروتس قد طعنَ ،
وعندما أبعد خنجره المشؤوم بعيدا ،
تبعه السيل من دماء قيصر،
مثل شخص يسرع خارجاً ليُنقذ،
فإذا بروتس دقّ الباب بعنف أولاً)..
وهذا هو (التعليل) الرائع .
يختبر الجرجاني (التعليل) الرائع هذا بإتقان عظيم ويقسمه إلى أنواع متعددة معطيا أمثلة متنوعة ويحاكم القيمة المتعلقة بالأبيات المفردة بذوق أدبي متطور عال. إنّ الأسس لأحكامه الجمالية القيمة مثيرة للاهتمام جدا، وهو يحيل القارئ إلى شعوره، لعاطفته التي شعر بها عندما يقرأ هذا البيت أو ذاك. ولذا يستقصي التأثيرات النفسية للأبيات المختلفة المكتوبة بالموضوع نفسه .
وارتباطاً بذلك، ولإيضاح نوع آخر من التعبير الذي يتأخر فيه التعليل أو يبقى في الخلفية، الهدف في هذا النوع أنّ الشاعر يريد أن يُنسي المستمع إنّه يُعبّر بالاستعارة فتؤخذ الاستعارة بحرفية وإدراك صحيح.
وفي هذه الطريقة، الأساس مبني للطرافة وفي بعض الأحيان اقرب للفن الزخرفي، للمواقف التي يتظاهر فيها الشاعر نفسه ليكون مدهشا أو لنفترض ليكون السامع نفسه مدهشا .
مثلا: كان عضد الدولة يقف في الشمس فقام غلام تركي كان يحبه بالتظليل له فقال :
قامت تظللني من الشمس        نفــس أعـزُّ عليّ من نفسي
قامت تظللني ومن عجبٍ        شمس تظللني من الشمس
الشمس هنا استعارة للعبد الجميل لكنّ البيت يكون ذا معنى لو قُريء كما لو لم يكن هناك استعارة أصلا .
إنّ المقارنة المعروفة بين الوجه الجميل والقمر ستكون أساساً لمثالين آخرين:
الفتى الجميل يرتدي ثوبا باليا ! والسبب سهل جدا:
أليس ضوء القمر يُبلى الكتّان؟
لا تعجبوا من بلى غلالته        قد زرّ أزراره على القمر
"أما ترونه زرّ أزراره على القمر، والقمر من شأنه أن يسرع في بلى الكتان، وغرضه بهذا كله أن يُعلم أنْ لاشك ولا مرية في أن المعاملة مع القمر نفسه، وان الحديث عنه بعينيه ...(ص283 أسرار البلاغة)".
القمر المكتمل، الشباب الجميل بعد أن يزور الشاعر في المساء، يقول الشاعر : ألا تنوي أن تأتي في النهار؟ ردّ المحبوب: لا أريد أن أغير عاداتي، فالقمر المكتمل يرتفع في المساء فقط (ص291).
في هذه الأمثلة من الضروري أن تُنسى المقارنة. الأبيات لها عندما تُقرأ كما لو كانت هنالك شمس حقيقية أو قمر حقيقي.
في الفصل الذي بعده، يقدم الجرجاني مناقشة بارعة في الفرق بين التشبيه والاستعارة. تلك الحالات التي ربما تكون مربكة لأي من النوعين تتبع التعبير، خصوصا التي ناقشها. مثلا : هو الأسد ولقيتُ الأسد (تجريد) والعديد من الحالات المعقدة .
ثم في (ص313) يناقش الانتحال الحرفي والأصالة والتطور الفني وتكييف المعنى للمحفزات المعروفة جيدا والمتشابهان.
إنّ موهبة الشاعر الشرقي تظهر نفسها بدقة في هذا النوع الأخير من الشعر، وكانت مقدرة وممتعة جدا عند النقاد بمن فيهم الجرجاني .
ثم في (ص317) يتعامل المؤلف مع تلك الحالات التي نجح فيها الشاعر أن يمنح كلمة (أو موقفا) معنى جديدا كليا، ومعنى غير متوقع من خلال تأويلها بطريقة مميزة. مثلا البيت المشهور للحطيئة الذي حوّل فيه اسما مهنيا كان قد أُطلق على قبيلة عربية (أنف الناقة) إلى لقب مُشرّف. ومثل هذا البيت لا يضيع بين الأمثلة ولا تضيع بينها مرثية ابن الانباري المشهورة في رثاء الوزير المصلوب ابن بقية .
إنّ إحصاء التعبيرات المجازية والصحيحة (ص 324) التي تظهر خصوصا كيف أن العلاقة الخفية للمعنى الصحيح دائما تبقى في الاستعمال المجازي للكلمة، مثلا كلمة (يد) تستعمل في معنى (النعمة أو الفائدة) أو القوة أو تستعمل فقط في حالات تتعلق بالمعنى الأصلي المتعلق بنشاط اليد.
يشير الجرجاني أيضا إلى حقيقة أن العلاقة بين المعنى الصحيح الحقيقي والمعنى المجازي غالبا اقرب للتعقيد. لذا لا يمكن تصنيفه على انه استبدال سهل لكلمة بكلمة هي الأخرى تعني شيئا آخر بالأصل .
إن العلامة الخفية يجب أن تُستكشف غالبا بالتأمل الذي يكشف حقيقة أن التشابه الذي يقود إلى استبدال كلمة بكلمة أخرى مجازية مستعملة ليس مشتقا من مفهوم واحد لكن من مفاهيم متداخلة معقدة. هذا التعقيد يجب أن يكتشف بالتحليل في كل حالة أساسية .
يشرح الجرجاني أخيرا ويعطي أمثلة شاملة ومنطقية للمعنى المجازي (المجاز) في جمل (ص338)، ويمكن أن يظهر المجاز في جملة بطريقتين، ربما يحتوي أما على المنسوب إليه في عمل معين لموضوع معين أو يحتوي على الشيء المنسوب إليه نفسه. في الجملة: (أيام الفراق شيّبت مفارقي) ص 342، فأيام الفراق لم تجعل الشعر ابيض بحق، فنسبة عمل البياض إلى الفاعل وهي أيام الفراق هو مجاز بناء على ذلك. والكلمة التي تظهر المنسوب إليه نفسه، مثال : بياض الشعر، هو غير مستخدم بصورة مجازية لأن بياض الشعر هو حقيقة، وعلى جانب آخر، في آية من القرآن الكريم : (وأحيينا به الأرض بعد موتها).
فالمجاز يعتمد على الشيء المنسوب إليه، والنسبة في هذه الفاعلية (إحياء الأرض) إلى الفاعل وهو الله قائمة على الفهم بصورة خاصة. ولكن إظهار الكلمة للشيء المنسوب إليه إلى الفاعل وإحياء نفسها غير مستخدم بصورة خاصة.
بما أنّ (الحياة) هنا هي مجاز عن خضرة الأرض وكلا نوعي المجاز يمكن أن يظهرا في الجملة مثل : (نظرتك أعطتني حياة جديدة) (ص439)، فهنا النسبة في إعطاء الحياة إلى النظر والتصميم في المواساة والفرح بوصفها حياةً جديدة هما كلاهما تعبيران مجازيان.
وإذا ما اعتمد المجاز في النسبة لعمل ما لفاعل معين فإنه سيعتمد على حكم منطقي يعبر عنه في ذلك العمل ولذلك ينتمي إلى طريق العقل. وإذا ما اعتمد الشيء على المنسوب إليه فإنه بذلك ينتمي إلى طريقة استخدام اللغة، ومصطلح (اللغة)، فاستخدام اللغة أو المصطلحات يحدد فيما إذا (الحياة) أو غيرها هو التعبير الخاص لخضرة الأرض، ولكن فيما إذا (الإحياء) أو غيره يمكن أن ينسب إلى (الله) كفاعل فهذا يحدد بالعقل.
إن القول المجازي ليس مُربِكاً بسبب تعبير قصده قائله بمعنى صحيح بل يربك إذا كان قصده زائفا، مثال ذلك:
يقول المشركون : )وَمَا يُهْلُكُنَا إلّا الدَّهْرُ( (ص355).
وفي التعبير المجازي الأصيل، فإنّ الموضوع الأصلي هو دائما مأخوذ بنظر الاعتبار (مُحافظ عليه)، والرابط معه ليس مفقوداً. فعندما يقول شخص ما : «السكين تقطع» فهو لا يستطيع أن يتخيل الموقف من دون التفكير في مستخدم السكين في الوقت نفسه، ولكن هذا ليس المقصود من التعبير الخاطئ المعبّر عنه حرفيا. وكما يشرح الجرجاني فإن هذه المعرفة على أهمية عظمى في تفسير (تأويل) القرآن (ص360).
ويبدو الكتاب كما لو أنه منتهٍ أصلاً مع هذا العرض (الشرح) والجزء الذي يبدأ مع بسملة جديدة الآن ربما كان في الأصل رسالة منفصلة وأُلحقت بالكتاب فيما بعد، وربما فعل هذا الكاتب (المؤلف) نفسه (ص364).
وفي هذا الجزء يشرح الجرجاني بأن هذا المفهوم الخاص بالمجاز إنما هو أعم من مفهوم الاستعارة، لأن الاستعارة هي احد فروع المجاز، ثم يشرح أمثلة متنوعة عن الكناية التي أصبحت جزءً من المصطلحات العربية من اجل التمييز بينها وبين الاستعارة، وقد حقق مجدداً في الفرق بين المجاز من طريق العقل والمجاز من طريق اللغة (ص376) واستنتج من تحقيقاته في هذه المجازات بأنها مؤثرة بالحذف والزيادة. وقد شرح بأن كليهما يتخلى عن تعبير (المجاز) فقط إذا ما اتصلا بتغيير المحتويات القواعدية (النحوية) مثل قوله تعالى: )وَاسْأَلِ الْقَرْيَة((ص383) و: )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ( (ص384).
والجرجاني يعرض آراءه بأسلوب غالبا ما يبدو مسهبا إلى حد ما بالنسبة لنا، ولكن علينا أن نتذكر على كـل حـال بأنه كان مُلزماً بالعمل على تطوير أفكـار رائـدة لم تؤخذ بالحسبان في العالم العربي من قبل. إن المقاطع المملة ليست نتيجة استطرادات زائدة ولا مجدية وإنما لمحاولة إظهار المعرفة الجديدة المكتشفة بوضوح تام، فالجرجاني يُحب أن يطور أفكاره بجمل طويلة وفيما عدا ذلك، فإنها ترد بندرة في النثر العربي، والمعنى من جمل طويلة كهذه ليس سهل الإدراك دائما.
وما سوى ذلك فإن أسلوبه واضح ومتنوع ويعلو على جفاء الكتابة المُتعلمة بالاستخدام الاعتيادي للنثر المقفّى، لذلك فإن هذا الكتاب إنما هو رائعة أدبية في الأدب العربي ليس لمحتواه فحسب وإنما للتحليل العميق في الإبداع الشعري وكذلك في الأسلوب.

*  هوامش البحث  *
(*) جامعة البصرة – كلية التربية.
(*)  تعني الشرق.

([1]) المستشرقون الألمان النشوء والتأثير والمصائر، د.رضوان السيد، دار المدار الإسلامي، سنة 2000، بيروت، ص14.
([2]) يُنظر كتابي (بنية اللغة العربية في دراسات التيار المعادي للعقل العربي)، الفصل الأول منه خاصة، طبعة دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، سنة2002.
([3]) يُنظر: المستشرقون الألمان، ص14.
([4]) ترجم هذا البحث عدنان حسن، ونُشر ضمن كتاب تأملات في الشرق (تقاليد الاستشراق الفرنسي والألماني وحاضره)، دمشق، 2006.
([5]) المصدر نفسه، ص 12.
([6]) المستشرقون الألمان، ص63.
([7]) تأريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان، د. جواد علي، مجلة المجمع العلمي العراقي، مجلد 7، سنة 1960، ص332.
([8]) المستشرقون الألمان، ص62.
([9]) الدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم  مدرسة نولدكه، الدكتور عباس ارحيله، مقال على شبكة الانترنيت.
([10]) الوجيز في علم الاستشراق، د.سعدون الساموك، دار المناهج، عمان، ط1، سنة 2003، ص49.
([11]) يُنظر: الاستشراف الالماني تأريخه وواقعه وتوجهاته المستقبلية (دراسات مختارة جمعها ونقلها من الألمانية إلى العربية د. احمد محمد هويدي)، المجلس الاعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، سنة 2000، ص38.
([12]) يُنظر: المصدر نفسه، ص28.
([13]) المنشور في كتاب الاستشراف الالماني السابق الذكر.
([14]) المصدر نفسه، ص22.
([15]) الدراسات الإسلامية الشروط الفكرية والسياسة لفرع معرفي، بحث منشور في كتاب تاملات في الشرق تقاليد الاستشراف الفرنسي والالماني وحاضره، سوريا، 2006، ص47.
([16]) المستشرقون الألمان، د. رضوان السيد، ص55.
([17]) الدراسات الإسلامية، ص46.
([18]) المستشرقون الألمان، ص66.
([19]) عنوان الكتاب : تاريخ حركة الاستشراق الدراسات العربية والاسلامية في اوربا حتى بداية القرن العشرين، نقله عن الألمانية عمر لطفي العالم، دار المدار الإسلامي، بيروت، سنة 2001.
([20]) المستشرقون الألمان، ص62 .
([21]) المصدر نفسه، ص68.
([22]) المصدر نفسه، ص70.
([23]) يُنظر مراجعة الدكتور جواد علي لكتاب الاعلام للزركلي، مجلة المجمع العلمي العراقي، مجلد 6، سنة 1959، ص554.
([24]) المستشرقون الألمان، ص72.
([25]) مقابلة مع المستشرق فيشر أجريت سنة 1988، منشورة ضمن كتاب أبحاث عربية، (الكتاب التكريمي للمستشرق الألماني فوفلفديتريش فيشر)، إعداد وإصدار د. هاشم الايوبي، ط1، بيروت، جرّوس – بيرس، سنة 1994، ص369.
([26]) المستشرقون الألمان، ص77.
([27]) يُنظر: مستعربان ألمانيان بارزان هلموت ريتر ورودي بارت، بحث للدكتور ميشال جحا ضمن كتاب (الاستشراق) الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، العدد الثالث، سنة 1989، ص113.
([28]) المستشرقون الألمان، ص46.
([29]) المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف، القاهرة، ط2، سنة 2006، ص2/460.
([30]) ينظر المستشرقون الألمان، ص42.
([31]) ينظر بحث الدكتور ميشال جحا السابق ص 114.
([32]) ينظر المصدر نفسه، ص 114.
([33]) ينظر المصدر نفسه، ص115.
([34]) ينظر المصدر نفسه، ص65.
([35]) مع المستشرق الالماني ولف ديترخ فيشر (مقابلة) أجراها أحمد علي، منشورة ضمن كتاب أبحاث عربية، الكتاب التكريمي للمستشرق الألماني فولفديتريش فيشر، ص381.
([36]) المستشرقون الألمان، ص47.
([37]) الاستشراق الألماني، ص53.
([38]) يُنظر المصدر نفسه، ص83.
([39]) يُنظر المستشرقون، 2/ 460 -462.
([40]) مقدمة ريتر، ص26.
([41]) ينظر دراسة الدكتور ميشال جحا السابقة، ص 114.
***